305 44 839KB
Arabic Pages [116] Year 2021
الطبعة األولى
م2021 - هـ1442
www.d-althagafhalqurania.com
2
بسم اهلل الرحمن الرحيم
الحم�د هلل رب العاملي�ن ،وأش�هد أن ال إل�ه إال اهلل املل�ك الح�ق املبين،
وأشهد أنَّ سيدنا محمد ًا عبده ورسوله خاتم النبيين.
الله�م ص�لِّ على محم ٍد وعلى آل محمد ،وب�ارك على محم ٍد وعلى آل
محم�د ،كام صلي�ت وباركت عل�ى إبراهيم وعل�ى آل إبراهي�م إنك حميدٌ
مجي�د ،وارض الله�م برضاك عن أصحاب�ه األخيار املنتجبين ،وعن س�ائر
عبادك الصالحين.
بمناس�بة يوم عيد الغدير ،املناسبة اإلسلامية العظيمة واملهمة ،املناسبة
الت�ي تضمنت اإلعلان التاريخي العظيم ،الذي نزل األمر من اهلل (س���بحانه وتعال���ى) إلى رس�وله وخات�م أنبيائه محمد (صلى اهلل وس�ل�امه علي���ه وعلى آله)
لتبليغه في يوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة ،من السنة العاشرة للهجرة،
أثن�اء عودة الرس�ول (صلى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) من حج�ة الوداع ،بهذه املناسبة املباركة (يوم الوالية ) يسرنا أن نقدم هذه املادة الثقافية التي تضمنت
عدة أبواب كلها تتحدث عن الوالية وأهميتها في الواقع البش�ري ومن هو
املؤهل لها بعد رسول اهلل (صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم) إلى يوم القيامة بدء ًا باإلمام علي (عليه السالم) .واهلل املوفق
•••
3
الباب الأول الوالية الإلهية ال�شاملة ماذا تعني الوالية؟ الوالية ليست مجرد فكرة خاصة ،وصناعة مذهبية ،صنعتها طائفة
معين�ة م�ن أبن�اء األمة| .ال| الوالي�ة :هي حال�ة قائمة في واقع البش�رية، حالة قائمة موجودة عند كل البش�ر ،حتى خارج الس�احة اإلسلامية ،طبع ًا نقص�د باملفهوم األعم (حالة الوالية) بمعنى :م�ا من طائفة في هذه الدنيا،
وال م�ن فئ�ة في ه�ذا العالم (من أبناء البش�ر) إال ولها ارتب�اط بجهة معينة، برم�وز معينين ترتب�ط بهم على أنهم املصدر والجهة الت�ي تقتدي بها ،تتأثر
بها ،تس�تلهم منها تعاليمها وتوجيهاتها ،تُقدس ما يقدم من جانبها من آراء ومن أفكار ،وتعتبرها مس�ارها الذي تعتمد عليه كمنهج ،كمواقف ،كمسار في الحياة ،هذا ش�يء قائم حتى في خارج الس�احة اإلسلامية ،يعني :بين اليهود ،والنصارى ،والوثنيين ...كل البش�ر هم على هذا األس�اس ،وسواء
كانوا أصحاب انتامء ديني (باملعنى الش�ائع واملنتش�ر) ،أو بغير ذلك ،يعني: (طائف�ة ،أو فئ�ة) ،كل فئات الدنيا له�ا رموز معينون ،لها ق�ادة ،لها قدوات
ترتب�ط بهم ،تتأثر بأقواله�م ،بآرائهم ،بأفكارهم ،وتعتب�ر أن املفترض بكل الن�اس أن يحذو حذوها في أن يرتبطوا بتلك الجهة التي آمنت بها ،وآمنت
بأفكاره�ا وثقافاتها وما تقدمه ،ولهم مكانته�م وعظمتهم وأهميتهم؛ فهي
حالة قائمة.
4
في الس�احة اإلسالمية كذلك ،كل الطوائف اإلسالمية ،كل املذاهب
اإلسلامية لهم ارتباطات برموز معينين ،ينظ�رون إليهم على أنهم هم أهل
الح�ق ،وأهل الحل ،وأهل العق�د ،وأنهم من ينبغي أن تؤخذ أقوالهم ،وأن
يؤم�ن اآلخ�رون بأفكاره�م ،وأن يتقبل�وا منهم م�ا يقدمونه ،وأنه�م القادة والق�دوة واألس�وة ،والذي�ن يفت�رض االرتب�اط به�م م�ن كل أبن�اء األمة، والحذو حذوهم من كل املنتمين لإلسلام ...هذه حالة قائمة في اإلسالم،
في الساحة اإلسالمية حالة حاضرة ،وخارج الساحة اإلسالمية حالة قائمة، فقط حساس�ية غريبة وعجيبة تجاه الوالية من املنظور القرآني ،وعلى وفق
ثقافة الغدير (ثقافة يوم الوالية).
هذه املس�ألة تحظى بحساسية من أكثر األطراف ،و ُينْظَ رُ إليها بتعقد
كبي�ر (عقدة عجيب�ة جدًّ ا) ،على نح� ٍو يدخل فيه العصبي�ة املذهبية ،تدخل
في�ه إش�كاالت كثيرة وتعقي�دات كثيرة؛ تؤث�ر على الكثير م�ن الناس حتى ف�ي التحقق من هذه الثقاف�ة ،في التعرف على هذه املفاهي�م ،وأحيان ًا تنقل (أو تصاغ) مفاهيم أخرى ،تحس�ب على الناس ،وهم بريؤون منها؛ بهدف
التشويه الكبير جدًّ ا.
على كُ لٍ ،الوالية حسب ما قدمها القرآن الكريم في اآلية القرآنية:
َّ َ َ يُِّ ُ ُ ُهّ َ َ ُ هُ ُ َ ذَّ َ َ ُ ْ ذَّ َ ُ ُ َ َّ َ َ }إِنما ولكم الل ورس��ول والِين آمنوا الِين ي ِقيمون الصالة َ ُ ْ ُ َ َّ اَ َ َ ُ ْ َ ُ َ َ َ َ َ َ َّ َهّ َ َ ُ هَ ُ َ ذَّ َ َ ُ ْ ويؤتون الزكة وهم راك ِعون ومن يتول الل ورسول والِين آمنوا َ َّ ْ َ هّ ُ ُ ْ َ ُ َ حزب اللِ ه��م الغ بِ الون { [املائدة ]56-55:ثم ف�ي النص املرافق لها فإِن ِ 5
في حديث النبي (صلى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) وبالغه (صلى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) نص يمك�ن أن نقول :نص نبوي توأم مع الن�ص القرآني ،يعني: متراب�ط كل التراب�ط مع الن�ص القرآني ،على صل�ة وثيقة بالن�ص القرآني
الم ْؤ ِمنِين أ َْولَى هلل َم ْو اَلي َوأَنَا َم ْولَى ُ ِن ا َ ومتش�ابه معه في التسلس�ل( :إ َّ ُم ِي َم ْو اَلهُ) ،كذلك (الله َّ َذا َعل ٌّ ْت َم ْو اَل ُه َفه َ كن ُ َم ْن ُ ُسهِم ،ف َ ِبهِم ِم ْن أَ ْنف ِ َاخ ُذ ْل َم ْن َخ َذ َلهُ) َص َرهُ ،و ْ ْص ْر َم ْن ن َ َعا ِد َم ْن َعادَاهُ ،وَان ُ َالهُ ،و َ َال َم ْن و اَ وِ ْ َ َ هَّ ُ َّ ُ َ ح ْز َب اللِ ه ُم الغ بِ الون{. في مقابل }فإِن ِ واضح جدًّ ا ،يتح�دث عن الوالي�ة باعتبارها والية اهلل ٌ الن�ص القرآن�ي
َّ َ
ُ
هَّ ُ
(س���بحانه وتعال���ى) }إنما َو يُِّ لك ُم الل{ ،وهذه املس�ألة مهم�ة جدًّ ا؛ ألن ِ
العق�دة والعصبي�ات املذهبي�ة جعل�ت هذا املب�دأ املهم والكبير ف�ي القرآن الكريم واإلسالم العظيم ،يهمّ ش إلى ح ٍد كبير ،ويتعامل معه الكثير بتوحش ونف�ور وابتعاد ،وال�كل يريد أن يمر علي�ه مرور ًا عابراً ،كثير من املفس�رين
يحظ باالهتامم الذي يفترض أن نهتم سرعان ما يحاول أن يتخلص منه ،لم َ به كمسلمين ،بعيد ًا عن العقد املذهبية ،والعصبيات الطائفية ،والباليا هذه، واملشاكل التي أثّرت على األمة ،وحجبت عن الكثير نور الهداية.
6
والية اهلل في مدلولها ال�شامل َّ َ َ يُِّ ُ ك ُ هَّ ُ ��م الل{ ،ه�ذه اآلية تتخاط�ب معنا ،تعنين�ا نحن كل }إِنم��ا ول
م�ن ننتم�ي إلى هذا اإلسلام( ،اهلل هو ولين�ا) ،فام هي ه�ذه الوالية؟ والية اهلل (س���بحانه وتعال���ى) ه�ي :والية ش�املة ،اهلل هو ول�ي كل ه�ذا الكون ،هو
ملك�ه ،هذا الك�ون هو ملك هلل (س���بحانه وتعالى) اهلل ولي�ه :خالقه ،وفاطره،
ومالك�ه ،ومنش�ئه ،ومكوّ نه ،وبارئه ...اهلل (س���بحانه وتعالى) ولي هذا الكون
ال ش�ريك ل�ه في ذل�ك ،وال يملك أحد غيره في هذا الك�ون مثقال ذرة في (جل ش���أنه) الس�موات وال ف�ي األرض وال في أي جزء من هذا العالم؛ فله َّ ه�ذه الوالي�ة :أوالً -أنه املالك له�ذا الكون ،وأنه (س���بحانه وتعالى) له والية األلوهية :هو وحده في كل هذا العالم املعبود بحق ،ال معبود بحق إال هو، وه�و حصري ًا يمتلك حق العبادة من كل الكائن�ات الفاهمة الواعية في هذا
الك�ون ،وله امللك عل�ى كل ما فيها من( :حيوان ،وجماد ...وغير ذلك).؛ (جل ش���أنه) رب فل�ه والي�ة األلوهي�ة ،ووالية الربوبية :أن�ه هو وحده الرب َّ
الس�موات واألرض وم�ا بينهما ،رب العاملين ،وأن الجميع ف�ي هذا العالم -بلا اس�تثناء -إنما ه�م عبيد له ومل�ك له ،ما هن�اك أحد يخ�رج عن هذه
القاع�دة :ال من املالئكة ،وال من األنبياء ،وال من البش�ر ،وال من الجن...
وال م�ن أي كائنات في هذا الكون وفي ه�ذا العالم ،الكل مربوبون ،الكل (ج���ل ش���أنه) رب العاملي�ن :املال�ك له�م ،املربي له�م ،املهيمن عبي�د ،وه�و َّ
(جل شأنه) له والية الربوبية. عليهم ...فهو َّ
7
(جل ش���أنه) املل�ك لهذا العال�م :ملكوت ث�م ،يبتن�ي على ه�ذا أنه َّ
الس�موات واألرض كل�ه بي�ده ،تح�ت س�لطانه ،وتح�ت أم�ره وقه�ره، (جل ش���أنه) املدبر لش�ئون الس�موات ه�و املهيمن علي�ه بكله؛ ولذلك هو َّ واألرض ،فله -أيضاً -والية التدبير القائم املس�تمر الذي هو فيه مس�تمر،
ُ َّ ْ َ َ
لَىَ ْ َ ْ
كام يعبّر في القرآن الكريم} :ثم اس��توى ع العر ِش{ ،لم يخلق هذا
الك�ون ثم يتركه هن�اك ،ويبقى متفرج ًا عليه إلى أي�ن يتجه ،وماذا يحصل
في�ه| .ال| متصرف فيه على الدوام( ،حي قيوم) حس�ب التعبير القرآني، ح�ي قي�وم :قائم عل�ى الدوام ،بلا انقط�اع ،بتدبير وتصريف ش�ئون هذا الكون بكل ما فيه( :يحيي ويميت ،يخلق ويرزق ،يعز ويذل ،)...وهكذا
تصرف شامل( ،يكوّ ر الليل على النهار ،يولج الليل في النهار )...تصرف (جل شأنه) مس�تمر ال ينقطع في تدبير ش�ئون هذا الكون وهذا العالم؛ فهو َّ
املل�ك ال�ذي ل�م ينقطع ولم يت�وان أب�د ًا (وال لحظة ،وال طرف�ة عين) في
تدبير ش�ئون هذا الكون ،يرعى فيه مصال�ح مخلوقاته بكلها (بأجمعها)، ويحك�م هذا الكون ف�ي الوالية التكوينية ،وهو مكون هذا الكون بس�ننه
الت�ي ال يمكن أن يخرج عنها ش�يء في هذا الك�ون أبداً .هذه والية قائمة
ووالية مستمرة.
8
والية اهلل ..بين النظرة ال�صحيحة والقا�صرة والخاطئة كيف ننظر في ساحتنا اإلسالمية إلى الوالية اإللهية في امتداداتها
األخرى( :امتداد الهداية ،امتداد التشريع ،امتداد اإلرشاد للعباد والتوجيه للعباد)؟ .في ساحتنا البشرية ،البشر دورهم في هذه الحياة ،دورهم في هذا
الوجود ،دورهم في هذا الكون ،دور بارز ،دور أساس�ي ،يختلف عن كثير من املخلوقات األخرى التي لها دور محدود جدًّ ا ،الدور البش�ري والدور
اإلنس�اني على األرض :دور مهمٌ من أجله س�خر للبش�ر ما في السماوات وما في األرض ،من أجله حمل البش�ر مس�ؤولية نأت وامتنعت عن حملها
الساموات واألرض والجبال ،فكيف ننظر في الساحة اإلسالمية إلى الوالية
اإللهية في بقية األمور ،ثم نعود إلى املنظور القرآني؟
البعض في العالم اإلسلامي يعتب�ر أن الوالية اإللهية -في الحد
األكب�ر -هي والي�ة خدمية ،يعني :ال يس�تحون من اهلل (س���بحانه وتعالى)
معني ف�ي واقعنا كبش�ر ،كعبيد له بمعن�ى :عنده�م أن اهلل (س���بحانه وتعال���ى) ٌ (سبحانه وتعالى) أن يخلق ،وأن يرزق ،أن يحيي ،أن يميت ،أن يشفي مرضانا، يمن علينا ويعطينا احتياجاتنا في هذه الحياة ،وينتهي دوره هنا ،ما يدخل أن َّ
في بقية ش�ؤون حياتنا [ما عاد له حاجة ،خالص يبطل] ،هذه نظرة البعض
من املحس�وبين على اإلسلام ،أن ح�دود الوالية اإللهي�ة ال يتجاوز الدور ال�ذي تع�ارف عليه البش�ر على أنه دور خدم�ي :يخلق لنا األبن�اء ،ويرزقنا
باألرزاق ،ينبت لنا األش�جار ،يمنّ علينا باألمط�ار ...وهكذا .الدور الذي
تعارفنا عليه في واقعنا الحياتي على أنه دور خدمي. 9
البع�ض ،ال ب�أس عندهم نظرة أوس�ع إل�ى الوالية اإللهي�ة :أنها
تتج�اوز ه�ذا الجانب ،الذي ه�و :تلبي�ة احتياجاتنا في هذه الحي�اة ،تغطية
احتياجاتن�ا في هذه الحياة ،اإلنعام علينا بام نحتاجه في هذه الحياة ،الرعاية
اإللهية في جانب االحتياجات اإلنس�انية الخاصة بالطعام والشراب ...وما
(جل شأنه) إلى ذلك .إلى جانب آخر ،وهو :التش�ريع ،بمعنى :أنه يمكن هلل َّ
أن يش�رع لنا أيض ًا باعتباره إلهنا ،وأن يحلّ لنا ش�يئ ًا ويحرم علينا ش�يئ ًا آخر (يح�ل لن�ا الطيبات ،يح�رم علينا الخبائ�ث) ،ويضاف إلى الرعاي�ة املادية،
الرعاية التش�ريعية :بأن يدلن�ا ويعرفنا [هذا حالل ،وهذا حرام ،احذروا من ه�ذا ،واعمل�وا هذا ،ه�ذا فيه خيرٌ لكم ،وهذا فيه ش�رٌ عليك�م] ،ولكن من
دون أن يتدخ�ل في أي آلية ضامنة للتنفيذ واالنضباط ضمن ش�رعه ونهجه
وتعليامته ،فقط أش�به ما يكون لديهم بمستش�ار قانوني ،يقدم ،يقول[ :هذا جيد ،سابر ،وهذا ما يصلح لكم] فقط ،يعني :ما يتدخل في آلية التنفيذ ،فيام
يضبط عملية التنفيذ ،فيام يرعى مس�ار األمة ضمن النهج الذي رس�مه لها، وه�ذا طرف ال ب�أس تقدم بخطوة إلى األمام عن الط�رف الذي ال يرى في الوالية اإللهية إال الجانب الخدمي فحس�ب ،وال ينظر إلى أي اعتبار آخر،
بل يتعاطى مع اهلل بوقاحة عجيبة.
ث�م ،كال االتجاهي�ن يري�ان في مس�ألة القيام بما يعنيه أم�ر األمة،
القي�ام في تصريف أو ف�ي توجيه األمة :العملية التوجيهي�ة ،العملية اإلدارية
ف�ي واقع األمة ،التي تبنى عليها السياس�ات ،واملس�ارات ،واملواقف ،وينظم
عل�ى ضوئها واقع األمة ،أنه أمر ليس هلل أي عالقة به وال صلة به ،وأنه ينبغي 10
الحيلول�ة دون أن يتدخل في املوضوع نهائياً ،وأن هذا أمر إلى اآلخرين ،مَنْ
اآلخري�ن؟ لنتأم�ل في واقع األمة م�ن كان هو البديل ،من أت�ى؟ هذه الرؤية العبقري�ة تمخضت عن مج�يء من؟ هذه الرؤية أضاع�ت األمة ،هذه الرؤية العقيمة التي منش�ؤها أحقاد ،ومنش�ؤها حسد ،ومنش�ؤها بغضاء ،ومنشؤها
تعص�ب ،ومنش�ؤها جه�ل ،ومنش�ؤها غب�اء ...فتح�ت املج�ال للجائري�ن، للظاملين ،للفاسدين ،للمستهترين ،ألن يجيئوا هم؛ فيتبوؤوا هذا املقام ،ثم ال
ذاك بقي ،الذي هو :الشرع في أحكامه ،وفي منهجه ،على حسب ما يفترض
أن يك�ون قائ ًام في واقع األمة ،وال املش�روع اإلسلامي ف�ي أبعاده األخرى: جوانبه الحضارية ،جوانبه التربوية ،جوانبه الواسعة ،شؤونه الواسعة املرتبطة
بطبيعة الدور العاملي املفترض لهذه األمة ،كل هذا وذاك ذهب ضائعاً.
الر�ؤية الكهنوتية للوالية الإلهية املعني ّ هذه الرؤية أتاحت املجال ،وقدمت التبرير والشرعنة ألن يكون
بإدارة شؤون األمة اإلسالمية (من هب ودب) ،فقط يُمَ كّ ن من االستحواذ على واقع األمة بقوة السالح وإغراء املال ،فمن تمكن أن يستحوذ على أمر األمة ،وأن يس�يطر في واقع األمة ،مستند ًا على قوة عسكرية وإغراء مادي،
فكي�ف م�ا كان[ :جاهالً ،جائراً ،فاج�راً ،ظاملاً ،فاس�قاً ]...ما هناك عندهم مان�ع أبد ًا [يتفض�ل] ،ويوجبون عل�ى األمة كلها أن تطيعه ش�رعاً ،وتصبح
عملا إيامني ًا وعبادي� ًا وقربة إلى اهلل (س���بحانه وتعالى) وتصبح مس�ألة ً طاعت�ه تمكينه ملامرسة هوايته في :الظلم ،والبطش ،والجبروت ،واالستحواذ على 11
أموال األمة ،وتكوين ثروة شخصية ،وتحقيق أغراضه وأهوائه الشخصية-
التي تكون املس�ألة الرئيس�ية بالنسبة له -تصبح مس�ألة مطلوبة شرعاً ،وأنه
أمر يجب التس�ليم به ،والخنوع له ،والخضوع له ،والتقبل له!! .هذه رؤية
غريبة عجيبة جدًّ ا ،ورؤية مسيئة إلى اإلسالم؛ ألنهم -في األخير -جعلوا اإلسلام مطية للجائري�ن ،والجاهلي�ن ،والفاس�قين ،والظاملي�ن ،والطغاة الذي�ن ظلم�وا األم�ة ،والذي�ن عبث�وا باألم�ة :أفقدوه�ا قيمة اإلسلام في
مشروعه الحضاري ،قيمة اإلسالم في مشروعه التربوي ،قيمة اإلسالم في أثره العظيم إلقامة العدل في الحياة ،في النهاية كأن العدل ليس من مطالب
اإلسلام ومقاصد اإلسالم ،وكأنه أمر هامشي في اإلسالم ،وقدموا صورة مختلة جدًّ ا عن املشروع اإلسالمي كمشروع للحياة.
الرؤية هذه ،نس�تطيع القول عنها :أنها تمثل الكهنوت بكل ما تعنيه
كلمة (كهنوت)؛ ألنها أعطت سلطة مطلقة ،ال ترتبط بضوابط وال بقيم وال
مب�ادئ أبداً ،للطغاة والجائرين ،وأعطتهم ش�رعية دينية في ذلك ،وكأن اهلل
(سبحانه وتعالى) (العظيم ،والعزيز ،والحكيم ،والعدل) قد أعطاهم الشرعية
والصالحي�ة الكامل�ة لفعل كل ذلك ف�ي مقابل أن تخض�ع األمة لهم ،هذا
ه�و الكهنوت ،الحالة التي كانت قائمة لدى الغرب في أوروبا ،في القرون الوس�طى ،ف�ي س�لطة الكنيس�ة ،كانت عل�ى هذا النح�و :ن�اس يتصرفون
بمزاجه�م ،برغباته�م ،بأهوائهم ،وعلى أس�اس أن لهم س�لطة في هذا ،أو
ش�رعية دينية ليتصرف�وا كيف ما يش�اءون ويريدون ،واآلخ�رون عليهم أن يطيعوهم ،وهم يستندون إلى هذا.
12
الرؤي�ة القرآنية في ثقافة يوم الوالية (في ثقافة الغدير) ،وفي النص
القرآن�ي ،تقدم رؤي�ة مختلفة وإيجابية وبنّاءة وعظيم�ة ،وال يفترض النفور
منه�ا ،ال�ذي يفت�رض أن تنفر األم�ة منه ه�و تلك الرؤي�ة :التي ينت�ج عنها تمكي�ن الطغ�اة والظاملين والجائري�ن والجهلة ،رؤية تمكّ �ن من ال يمتلك
أي معايي�ر ،أي مؤهلات ،ألن يتربع على عرش األمة ،وأن يتدخل في كل ش�ئون األمة ،وأن يكون ه�و املعني بكل أمر األمة ،ه�ذه رؤية عقيمة ،هذه الرؤي�ة التي يجب أن نش�مئز منها جميعاً؛ رؤي�ة ألحقت األضرار الفادحة
باألمة عبر التاريخ ،وأوصلت األمة اإلسالمية في هذا العصر املهم ،في هذا الزمن املهم جدًّ ا ،إلى مس�توى أكثر األمم غبن�اً ،وجهالً ،وتخلفاً ،وضعةً، وسقوطاً ،وتبعي ًة لألمم األخرى ،وساقطة وضائعة تحت هيمنة أمم أخرى،
وأقوام أخرى ،واتجاهات أخرى ،إال القليل القليل في أوس�اط هذه األمة؛ فه�ي الرؤية الغريبة الت�ي يفترض النفور منها ،واالش�مئزاز منها ،واالنتقاد
لها ،واالحتجاج الشديد جدًّ ا عليها بأشد ما يمكن أن يكون من العبارات
واملواقف.
13
النظرة القر�آنية للوالية الإلهية الرؤية القرآنية ،وفق ما ورد في س�ورة املائدة ،والتي كانت من آخر
ال في القرآن الكري�م ،وفي اآليات التي كان�ت من آخر اآليات الس�ور ن�زو ً
َّ َ َ يُِّ ُ ُهّ لك ُم الل الت�ي نزل�ت في س�ورة املائ�دة ،ومنها ه�ذا النص} :إِنم��ا و َو َر ُس هُ ُ ول{ ،والية اهلل (س���بحانه وتعالى) مثلام هي والية امللك الحصري لهذا العال�م بكله ،ووالية األلوهية ،ووالية الربوبية ،هي -أيضاً -والية تش�مل
واقعنا نحن البش�ر؛ فنحن عبيده( :مفط�ورون ،ومخلوقون ،ومربوبون له؛ هو ربنا ،ملكنا ،إلهنا؛ وأوجدنا لهدف ،وملشروع ،ولدور) ،ووالية تشمل-
(جل ش���أنه) أن يقول بالتأكي�د -الجانب التش�ريعي :هو الذي يمتلك الحق َّ لنا[ :هذا حرام ،وهذا حالل]؛ ألننا ملكه ،وما بين أيدينا كله ملكه ،ثم هو
(جل شأنه) الذي له الحق؛ ألنه( :الحكيم ،العليم ،الخبير ،الرحيم ،القوي، َّ
العزيز ،)...الذي له حق أن يتخذ أي قرار ش�اء ،وإذا اتخذ قرار ًا ما ،أو أمر ًا م�ا؛ فباعتبار عزت�ه ،وحكمته ،ورحمت�ه ،ليس مجازفةً ،ولي�س عن جهل،
ولي�س عن تص�رف غير حكيم ،أو عش�وائي...أو غير ذل�ك| .ال| فإذ ًا له والية علينا في التشريع :في أن يحل لنا ،وأن يحرم علينا ،وأن يفرض علينا،
وأن يوجب علينا ما نعمل ،وينهانا عام ينبغي أن ننتهي عنه ...إلى غير ذلك. (جل ش���أنه) والية علينا في أن يرعى ش�أننا ( :في تدبير أمورنا، ثم له َّ
ف�ي إدارة أمورن�ا) ،تمتد واليته إلى هذا الجان�ب( :إلى جانب الهداية ،إلى
ُهّ ل ذَّال َ الل َو يُِّ ِين (جل ش���أنه) من يقول ف�ي كتاب�ه} : جان�ب اإلرش�اد) ،هو َّ 14
ُّ ُ ىَ ُّ ُ َ ذَّ َ َ َ ُ ْ َ ْ َ ُ َ ُ ْ خُ ْ ُ ُ ّ آؤ ُهمُ ات إِل انلو ِر والِين كفروا أو يِل آمن��وا ي ِرجهم م َِن الظل َم ِ َّ ُ ُ خُ ْ ُ َ ىَ ُّ ُ َ ُ ْ َ َ ك أَ ْص َحابُ ون ُهم ّم َِن ُّ ـئ ل و أ ات م ل الظ ل إ ��ور انل الطاغ��وت ي ِرج ِ ِ ِ ِ ُهّ َ يُِّ ذَّ َ َ ُ ْ ُ ْ َ َ ُ َ َّ انل ��الون{ [البق�رة} ،]257:الل ول الِي��ن آمنوا ��ار ه��م فِيه��ا خ دِ ىَ خُ ْ ُ ُِ ّ َ ُّ ُ َ ُّ ُ ات إِل انلو ِر{ كيف ،هل هناك س�احة في الدنيا ي ِرجهم مِ��ن الظلم ِ ومربع فيه نور وآخر فيه ظالم؛ فيأتي ويخرجهم من الساحة التي فيها ظالم،
ث�م يذه�ب بهم إلى املربع اآلخ�ر أو املنطقة األخرى التي فيه�ا نور؟ النور، والظالم :كالهام عبارة ع�ن مفاهيم ،عن عقائد ،عن أفكار ،عن تصورات، ع�ن مش�اريع عمل ،فإما أن تك�ون الحالة الظالمي�ة :مجموعة من األفكار
واملعتق�دات ،التي تبنى عليه�ا توجهات ،وتبنى عليها أعمال ،وتبنى عليها مواقف ،يبنى عليها مس�ار حياة .وإم�ا أن تكون تلك الحالة األخرى ،حالة
الن�ور كذل�ك :مفاهيم ،أفكار ،تعليامت ،توجيه�ات؛ تبنى عليها توجهات،
تبنى عليها حتى املشاعر النفسية ،وتبنى عليها -أيضاً -مشاريع عمل .هذه
هي الحالة القائمة في حالة النور وفي حالة الظالم.
فالنور :عبارة عن مش�روع ومنهج في هذه الحياة( :فيه املعتقدات،
في�ه التعليامت ،فيه التش�ريعات ،في�ه التوجيهات) ،هو مس�ار حياة ،مرتبطة بواق�ع حياتنا ،في كل ش�ؤننا .والحالة الظالمية ه�ي :مجموعة من األفكار
الظالمي�ة الخطيرة جدًّ ا ،الس�يئة ج�دًّ ا ،التي هي أباطيل وضلاالت ،التي
تنحرف بالبشرية عن املسار الصحيح الذي يوصلها إلى رضوان اهلل ويحقق
لها الدور الذي تشرف به وتسمو به في هذه الحياة ،وتؤدي من خالله دورها 15
في استخالفها في األرض ومسؤوليتها في األرض على أرقى مستوى.
ر�سل اهلل ..حَ َملة م�شاعل النور للب�شرية كي�ف يعمل اهلل (س���بحانه وتعالى) في ذلك؟ عملي�ة اإلخراج هذه (من
رسلا ،هؤالء الرس�ل ً الظلامت إلى النور) كيف تتم؟ يرس�ل اهلل إلى عباده يأت�ون بهذه التعليمات ،بهذه التوجيه�ات من اهلل (س���بحانه وتعالى) في كتب
يأت�ون به�ا ،يترافق مع ذلك :الدور العملي املباش�ر (مع م�ا يقدمونه ،مع ما
يبلغونه)؛ فالرس�ل والكتب هام :الثنائيان املتالزمان ملشروع الهداية اإللهية إلخ�راج الناس م�ن الظلامت إلى الن�ور ،تجمع وتأتي تل�ك املفاهيم ،تلك التعليمات ،تل�ك التوجيهات ،املعبر عنها بالنور؛ ألنه�ا تضيء لنا دربنا في
ه�ذه الحي�اة ،ومس�ارنا ف�ي هذه الحي�اة ،حتى ال نضي�ع وال نتي�ه ،تأتي مع
الرسل ،قبل أن تكون مكتوبة تبلغ ،وتكتب ،وتوثق للبشرية ،ويترافق معها معني بعملية التبليغ: نش�اط ودور محوري ورئيس�ي ،مثالً :الرسول نفس�ه ٌ يكلم الناس ،يبلّغهم ،يتلو عليهم من اهلل (سبحانه وتعالى)(:تلك التوجيهات،
تلك املفاهيم ،تلك التعليامت ،تلك البصائر ،تلك التوضيحات) ،يترافق مع ذلك أن يكون هو معني ًا إلى ح ٍد كبير ،ومرتبطاً -بشكل رئيسي ومحوري-
بتلك التعليامت ،يكون هو :أول من يفهمها ،من يستوعبها ،من يؤمن بها، من يـتأثر بها ،من يجس�دها ،من يطبقها ،من يلتزم بها ،من يمثل القدوة في
أدائها ،من يرعى في النش�اط العملي ،والس�عي العملي في الواقع البشري: العمل على إقامتها ،على توجيه الناس في إطارها ،على تحريك الناس من 16
خالله�ا ،على تفهيم الناس بها؛ حت�ى ال يفهموها الفهم الخاطئ ،أو الفهم
الناقص ،أو الفهم القاصر .يعمل على دفع الناس لاللتزام بها ،على مواجهة
كل التحديات التي تعترضها؛ ألنه يحصل ردة فعل في الواقع البشري،
يأت�ي من يعارض هذه التوجيهات ،من يح�ارب هذه التعليامت ،من
يتصدى لهذه املفاهيم ،من يناقش ،من يجادل ،من يسعى إلبطالها وإنكارها والتكذيب بها ،أو العمل بطريقة أخرى إذا فشلت حالة التكذيب ،وفشلت
حال�ة الرفض لها ،والتصدي له�ا ،واإلنكار لها جمل ًة وتفصيالً ،وانتصرت
هذه الرس�الة اإللهية فيام فيها( :من مضامين ،م�ن توجيهات ،من تعليامت،
م�ن مفاهيم ،من توضيحات ،من أفكار ،من تصورات ،من عقائد) ،يعني: بالنس�بة لنا تصبح هكذا (حال�ة قائمة في واقعنا)؛ يأت�ي مخاطر وتحديات أخ�رى :احتوائي�ة من جان�ب املبطلين ،عملي�ة تحريف للمفاهي�م ،إما من
خلال افتراء نص�وص جديدة تضاف وتحس�ب ،وإما من خلال تحريف
للمعاني التي حملتها النصوص املقدمة لألمة ،والتوضيحات املقدمة لألمة
في كتب اهلل ،وفي حركة أنبياء اهلل ورسل اهلل.
فه�ذه العملية :هي عملية إخراج من الظلمات إلى النور ،األفكار
الظالمي�ة ،العقائد الظالمية ،املفاهي�م الظالمية ،التص�ورات الخاطئة التي
يبن�ى عليها مواقف ،يبن�ى عليها أعامل ،يبنى عليها تحرك في الحياة ،تصبح منهج ًا يلتزم به هنا وهناك الكثير من الناس ،ويتعصب له الكثير من الناس، وتصبح عقائد يتشبث بها الكثير من الناس؛ يأتي الرسل واألنبياء بهدي اهلل، بنور اهلل ،بوحي اهلل ،بكلامت اهلل ،بكتب اهلل ،وضمن نش�اط تبليغي وعملي 17
وتربوي وحركة واس�عة :يبلّغون ،يجاهدون ،يربّ�ون ،يقاتلون ،يهاجرون،
يضح�ون ،يُكَ وّ نُونَ هم ف�ي أدائهم الحركي والعمل�ي الحالة التي يعان�ونّ ،
تجس�د تل�ك التعالي�م ،تطبّق تلك التعالي�م ،تحوّ ل تلك التعالي�م إلى حالة عملية وحياتية قائمة في الواقع ،جهد كبير ورئيس�ي ،يعني :ليست العملية
التي يكلف بها األنبياء عملية إذاعية ،كالش�خص الذي هو مذيع ،مذيع في التلفزي�ون أو ف�ي إذاعة[ ،ما بلا با يقرأ الخبر :بلغنا للت�و ،وصلنا للتو خبر عاج�ل (ال ال ال) ،ويق�وم يق�رأ البالغ ،وخالص انته�ت املهمة ،وهو ذلك املذي�ع الذي س�ينتظر خبر ًا آخ�ر يقدمه وخالص اكتم�ل املوضوع!] |ال|
األنبي�اء ليس�وا مذيعين على منص�ات إذاع�ات أو تلفزيون�ات| ،ال| دور رئيس�ي وكبير جدًّ ا في الس�احة العملية ،هو يحمل هذا املش�روع كمشروع حياة ،يأتي يتحرك في الس�احة على أساسه ،يربي الناس على أساسه ،يفهِّ م
الناس من خالله ،يغيّر الكثير من املفاهيم ،يحدث تغيير ًا كبير ًا في الس�احة البشرية ،في العادات ،والتقاليد ،واملفاهيم ،والتصورات ،واملواقف ،ويتجه بالناس ضمن مسار عملي ومشروع حياة يتحرك فيه.
والية الر�سل امتداد لوالية اهلل ه�ذه عملي�ة إخراج الناس م�ن الظلامت إلى الن�ور ضمن الوالية
اإللهية ،بمعنى :أن واحد ًا أو جانب ًا رئيس�ي ًا من مفهوم الوالية اإللهية مثلام ه�و َخلَ�ق ،مثلام هو رَ زَ ق ،مثلام ه�و أحيا وأمات ،مثلام هو يدبّر ش�ؤون هذا
الكون على نحو مستمر في حركته الكبرى :حركة النجوم ،وحركة األقامر، 18
وحركة الشمس ،وحركة األرض ،وما في األرض من كل التصرف اإللهي
في اإلحي�اء واإلماتة والخل�ق ،وكل العملية التكوينية والتدبيرية الواس�عة
ل ذَّال َ جانب آخر من واليته هو هذا الجانبَ } :و ُّ ِين ٌ جدًّ ا في هذا الكون، يِ ىَ خُ ْ ُ ُ ّ َ ُّ َُ الظ ُل َم��ات إل ُّ انل ن م م ه ج ر ي ��وا ن آم ور{ .هذا املش�روع يقوم عليه ِ ِ ِ ِ ِ َّ َ َ ُّ ُ ُ ُهَّ األنبي�اء ي�ؤدّون دوره�م ،وله�ذا }إِنم��ا و يِلكم الل{ يرعاك�م رعاي ًة ش�املة ،رعاية املِلْ�ك والتص�رف ،رعاية األلوهي�ة ،رعاية الربوبي�ة ،رعاية
التش�ريع ،رعاية الهداية ،رعاية النصر ،رعاية التأييد ،رعاية ش�املة تش�مل
كل نواحي ومناحي حياتكم.
ُ
هُ
} َو َرس ُ ��ول{ امتداد لهذه الوالية في واقعها البشري ،من خالل حركة
الرس�ل واألنبي�اء ف�ي تبليغ ه�دي اهلل ،وتعليمات اهلل ،ومنهج اهلل (س���بحانه
عملي ٌ وتعال���ى) والدور الذي يقومون به في إطار الحركة التبليغية ،وهو دورٌ يحت�م اهلل في�ه طاعتهم؛ إلنجاح ذلك املش�روع ،ولتحويله إل�ى حالة قائمة
َّ ُ َ َ ْ هّ ََ َْ َ َْ َّ ُ ول إِال يِلطاع بِإِذ ِن اللِ{ في الواقع البش�ري} ،وما أرسلنا مِن رس ٍ
[النس�اء[ ،]64:م�ا هو مج�رد فقط موعِّ �ظ واال مُ خبر] ،يعن�ي صاحب أخبار،
ُ َ ل َطاع صاح�ب تحرير صحفي ،يحرر األخبار ويبلغها ،أو مذيع| ،ال| } يِ َّ يُِّ َ ْ ىَ ْ ُ ْ َ ْ َ ُ ْ هّ نفس ْ } ، { أ ِن م ني ن م ؤ م ال ب ل و أ ِب� � انل ��هم{ [األح�زاب،]6: الل ِ بِ��إِذ ِن ِ ِ ِ ِ ِ َ َ ْ ىَ ْ ُ ْ َ ْ ُ ْ س ِهم{ له هذه الوالية التي هي امتداد للوالية }أول بِالمؤ ِمنِني مِن أنف ِ اإللهية ضمن هذا املشروع اإللهي ،يبقى هو عبد ًا خاضع ًا هلل (سبحانه وتعالى)
ْ َ َّ ُ َّ َ يبقى في الواقع الذي يقول فيه ـ كام علّمه اهلل أن يقول} -إِن أتبِع إِال ما 19
ُ ىَ
يَ
يوح إ َّ ل{ ،يعني :ال يمتلك س�لطة التصرف املزاج�ي| .ال| ال يمتلك ِ
أن يتص�رف ف�ي الناس كام يريد ،كما هي الحالة األخرى ف�ي الفكرة الثانية ف�ي مفهوم الوالية باملفهوم اآلخ�ر ،والية أمر الناس باملفهوم الذي يحارب ثقاف�ة الغدي�ر ،ومفه�وم الوالية وفق الن�ص القرآني في ثقافة ي�وم الوالية،
يعط�ون الجائر واملس�تكبر الظالم ،يأتي جاهل ما يمتل�ك أي معرفة ،أحيان ًا يحتاج إلى فريق حوله ،يعلمونه ويبذلون جهد ًا كبير ًا عليه كيف يستطيع أن ينطق ،كيف يس�تطيع أن يقرأ من ورقة ،كيف يس�تطيع أن يتعامل مع الناس
التعام�ل الروتيني ...ويحتاج جهود ًا مضنية ج�دًّ ا جدًّ ا في ذلك ،جاهل ال يمتل�ك أي معرف�ة ،ال دينية وال غي�ر دينية ،ويكون في نفس الوقت إنس�ان ًا
متسلطاً ،جباراً ،ال يمتلك الرحمة وال الرأفة ،وليس لديه أي مشروع لألمة
نفس�ها ،مفهوم الوالية عنده التس�لط على الناس ،ومامرسة حالة التسلط بام
يرتكب�ه من مظالم وجرائم ،وما يجمعه من ثروات ،هذا مفهوم الوالية ،ثم يعطونه مع ذلك وجوب الطاعة ،وجوب اإلذعان ،وجوب االس�تجابة له،
والخضوع التام له.
األنبياء ليست الحالة عندهم هذه الحالة ،النبي وهو النبي ،ال يمتلك
س�لط ًة مطلق� ًة يتصرف فيه�ا بمزاج أو ه�وى ،إنام يتحرك كعبد هلل (س���بحانه
وتعال���ى) ه�و أول املؤمني�ن بنه�ج اهلل ،أول املس�لمين ،علي�ه كل االلتزامات الدينية ،وأحيان ًا عليه التزامات أكثر من بقية املس�لمين ،بل مس�توى االلتزام
علي�ه أكث�ر م�ن مس�توى التزامه�م حتى ف�ي االلتزام�ات املش�تركة ،وعليه التزام�ات إضافي�ة بحس�ب مهمت�ه ودوره ،الح�رام ح�رام علي�ه ،الحلال 20
كذلك -حالل له ،االس�تثناءات التي تكون بالنس�بة له اس�تثناءات تتعلقبمهمت�ه الصعبة والكبيرة ،وعليه التزامات إضافية أكثر مام على األمة ،وهو
ذلك الذي هو عبد هلل ،خاشع هلل ،خاضع هلل ،ملتزم بنهج اهلل ،مستقيم على
ْ َ َّ ُ َّ َ ُ ىَ يَ َّ ْ َّ أم�ر اهلل وتوجيهات اهلل ،فيقول } :إِن أتبِع إِال ما يوح إِل {}،اتبِع َ َّ ْ َ ُ ىَ يَ ْ َ َ ُ َ يَ ْ َ م��ا أ يِ وح إِلك{ [األنعام :من اآلية} ،]106واتبِ��ع ما يوح إِلك{ [يونس: ُ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ م�ن اآلية} ،]109فاس��ت ِقم كما أمِرت{ [ه�ود :من اآلي�ة ]112ال تحد أو تنحرف
ع�ن ه�ذا النهج أبداً ،ويبقى هو في مقدمة املؤمنين ه�و ذلك األكثر التزاماً، األكث�ر طاعةً ،األرق�ى واألعظم عبودي ًة هلل (س���بحانه وتعالى) ال يتفرعن ،وال
يتجب�ر ،وال يطغ�ى ،وال يتكب�ر عل�ى عب�اد اهلل .ال ،ه�و القدوة ف�ي التزامه
الديني ،القدوة في التزامه بنهج اهلل وش�رع اهلل ،وخضوعه ألمر اهلل (س���بحانه وتعالى) وهو في نفس الوقت الذي يحمل من مشروع اهلل ،من نهج اهلل ِقيَمَ هُ
ف�ي الرحم�ة ،والحكمة ،وإرادة الخير للناس على أرقى مس�توى ،فال أحد
يص�ل إلى مرتب�ة األنبياء في رحمتهم بالناس ،ف�ي عطفهم على الناس ،في حنوِّ ه�م على الناس ،في حرصه�م الكبير ،وأن يعزّ عليهم ما يلحق بالناس
من ضرر ،ولو أدنى ضرر.
ه�ذه الوالي�ة بمفهومه�ا العظيم ،كي�ف ننف�ر منها؟! كي�ف يقول
البع�ض| :ال| |ال| ال نري�د هذا املفهوم أب�داً ،نريد املفه�وم اآلخر ،نريد مفهوم� ًا يفت�ح املجال ويفت�ح كل األبواب لكل جائر وظال�م وطاغية ليأتي
عل�ى عرش األمة ويدوس�ها بحذائ�ه ،ويركعها لجبروت�ه وطغيانه ،ذاك هو
املفهوم املريح بالنسبة للبعض!.
21
والية الإمام علي امتداد لوالية النبي الأكرم ه�ذا املفهوم اآلخر (املفهوم القرآني) ،مفهوم ثقافة يوم الوالية ،قدّ م
اإلم�ام علي ًا (عليه الس�ل�ام) من موقعه الذي جعل�ه اهلل فيه ،والذي وصل إليه ب�إرادة إلهية ،وتربي�ة إلهية ،وتربية نبوي�ة ،بمعايير إيامني�ة ،باعتباره في هذه األمة بعد نبيها أرقى هذه األمة في كامله اإليامني ومستواه اإليامني ،وارتباطه
باملشروع اإللهي :من حيث العلم بهذا املشروع واملعرفة ،من حيث االرتباط العمل�ي وااللتزام الحياتي بهذا املش�روع اإللهي ،ومن حيث االئتامن عليه،
وم�ن حيث التخلق بأخالقه ،ومن حيث-كذل�ك -االلتزام بقيمه ومبادئه،
علي كان في هذا املستوى في واقعه في األمة ،كان في هذا املستوى ،ويأتي له�ذا ال�دور امتداد ًا لنبي اهلل ،ألنه م�ا بعد األنبياء هل انتهت املس�ألة؟! هل
تنتهي ثمرة هذا النهج اإللهي ،هل يغلق اهلل (س���بحانه وتعالى) كل نوافذ النور ه�ذه ويترك املجال للظلمة لتطغى في واقع البش�رية؟ هل نافذة النور تغلق
عندما يعرج بروح نبيٍ من األنبياء؟ والنبي محمد هو خاتم النبيين [خالص انته�ى املوضوع ،يجلس الباقي في الظالم إلى قيام الس�اعة]؟! |ال| ال بد من االستمرارية لهذا املشروع ،ولهذا النهج اإللهي.
ُ هُ ذَّ ُ ُ َ َّ َل�اَ َ ُ ْ ُ َ َ ذَّ َ َ ُ يمون الص� ة َويؤتون ِين آمن��وا الِين َي ِق القرآن�ي ليق�ول} :وال َّ اَ ُ ُ َ الزكة ََوهم َْراك ِعون{ ،مقدم ًا لإلمام علي (عليه السالم) ضمن مواصفاته
م�ا بعد النبي (صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم)َ }:و َرس ُ ��ول{ يأتي النص
اإليامني�ة الراقي�ة ،ليأتي التقديم له ف�ي البالغ النبوي في ي�وم الغدير ضمن 22
ِي) ،وباإلش�ارة إليه باسمه وشخصه، َذا َعل ٌّ تش�خيص واضح باالسمَ ( ،فه َ
َذا َعل ٌّ ماسك ًا بيده ،ومقدم ًا له من فوق أقتاب اإلبلَ ( ،فه َ ِي َم ْو اَلهُ). الدور المهم والمحوري للإمام علي
اإلم�ام علي (عليه الس�ل�ام) يس�تمر في هذا الدور ما بع�د النبي (صلى
اهلل عليه وعلى آله وس���لم) ،وهو دور مهم ،ودور أساسي في مرحلة العادة
القائم�ة هي حالة اختالف بعد كل نبي من األنبياء ،وحالة نزاع بين أمته،
فهل تترك هذه األمة لتتنازع وتختلف ،وتتفرق في دينها ،في مفاهيم هذا أي منها يمثل االمتداد الحقيقي للنهج اإللهي ،املفهوم الصحيح، الدينٌّ ،
والتعري�ف الصحيح ،واملدلول الحقيقي للنصوص؟ |ال| بعد رس�ول
لي َذا َع ٌ ���و اَل ُه َفه َ ْت َم ْ كن ُ ���ن ُ َم ْ اهلل (صل���ى اهلل علي���ه وعلى آله وس���لم)( ،ف َ َم ْو اَلهُ). تُقْ فِ�ل ثقاف�ة الغدير كل األب�واب عل�ى كل الجائرين واملتس�لطين
والطغ�اة؛ ألنه�ا قدّ مت النموذج ،وقدّ م�ت لألمة ما يحفظ له�ا ويضمن لها أصال�ة االمت�داد للنه�ج اإللهي بعد رس�ول اهلل (صل ��ى اهلل وعلى آله وس ��لم) إن
اختلف�ت األم�ة ،أو تباينت ،أو تفرقت بعد النبي ،مَ�نْ يوصلنا إلى هذا النبي؟
ه�ا نحن اليوم بعد أجي�ال تلو أجيال من عصر النبي إل�ى اليوم ،أمتنا تفرقت، أمتن�ا اختلفت ،أمتن�ا تباينت في أكثر أمورها املتعلقة به�ذا النهج اإللهي ،إلى مَ�نْ نتطلع؟ هل تركنا هكذا ضحية في مرحلة من أهم مراحل التاريخ؟ أم أن
هناك امتداد ًا لهذا النهج في أعالمه ،في رموزه املؤتمنين؟ النبي حسم املسألة. 23
وله�ذا الحظوا ،الش�يء ال�ذي كان طبيعي ًا أن يحص�ل بعد حجة
الوداع ،وأثناء حجة الوداع ،والنبي يخبر أمته أنه يوشك أن يدعى فيجيب،
وأنه على وشك الرحيل من هذه الحياة ،هو أن تكثر التساؤالت حول هذه
املسائل بين أوساط األمة ،وأن تسخن االقتراحات والنقاشات واملداوالت، فماذا بعد وفاته؟ كيف؟ ماذا س�نفعل؟ ماذا س�يحصل؟ لكن النبي لم يترك
ال ألن تنش�غل األمة بالتساؤالت والجدل والنقاشات واالقتراحات … مجا ً
الخ| .ال| حس�م املس�ألة ،وأوضح الحجة واملحجة هلل (سبحانه وتعالى) من
خلال ه�ذه النصوص ،وما س�بقها من نص�وص كثيرة ومهم�ة وواضحة،
فَقُ �دِّ مَ لنا ضمن مفه�وم هذه الوالية املفهوم ال�ذي يضمن االمتداد األصيل ملنه�ج اهلل (س���بحانه وتعالى) ويحدد لن�ا النموذج األعظ�م واألرقى في األمة الذي يمكن أن تكون األمة متطلع ًة إليه على الدوام؛ لتعرف من هم رموزها
الذين ينبغي أن تلتف حولهم ،أن تنتهج نهجهم ،أن تأتمنهم في تجسيدهم لقيم اإلسلام وأخالقه ،وفي تقديمهم ملفاهيم اإلسالم ومدلول نصوصه،
ِي َم ْو اَلهُ). َذا َعل ٌّ هؤالء هم ( َفه َ
ث�م تطلع إلى اإلم�ام علي في زم�ن النبي ،في حياته مع رس�ول اهلل
تلمي�ذ ًا يربي�ه النبي (صلى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) ويعلّم�ه ،ودوره في تلك
املرحلة مع رسول اهلل (صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم) وفيام بعد رسول اهلل إلى ال ما فيه أيض ًا شواهد واضحة على تلك النصوص، حين استشهاده ،ترى فع ً ومصاديق عملية وحقيقة لتلك النصوص التي تحدثت عنه.
24
والي�ة اإلم�ام علي (عليه الس�ل�ام) لم تك�ن مجرد والية س�لطة انتهت
باستش�هاده ،ب�ل والية اقت�داء واهتداء ،تبق�ى األمة مرتبط ًة به�ا على مدى
الزم�ن في كل األجي�ال ،تبقى األمة معنية بااللتفات�ة الدائمة إلى علي (عليه
الس�ل�ام) لتس�تفيد مِنْ علي ،كيف كان علي هذا في كل مراحل حياته ،وفي كل مراحل دوره الكبير في اإلسالم؟
(((
•••
((( من محاضرة للسيد القائد بمناسبة الوالية لعام 1438هـ.
25
الباب الثاني �سنة اهلل في الهداية (منهج وقيادة) اهلل هو من ير�سم لعباده الطريق ال�صحيح إن مس�ؤولية الهداي�ة للعب�اد ،وتقدي�م الدي�ن الحق إليه�م ،وتقديم
الطريق�ة الصحيح�ة لعب�ادة اهلل (س���بحانه وتعال���ى) والبرنام�ج الفعل�ي الذي
يعبِّ�ر عن اهلل في هديه وتعليامته وتوجيهاته ،هي مس�ألة ترتبط باهلل (س���بحانه
تش�كل إنق�اذًا حقيقيًا للناس ،ونورً ا وتعالى) ووفق الطريقة اإللهية هي التي ِّ
َ
َْ
حقيقيً�ا للناس ،اهلل (س���بحانه وتعالى) يقول} :إ ِ َّن َعل ْي َن��ا لل ُه َدى{
[الليل:
اآلية ،]12مس�ؤولية الهداية للبش�ر ،وتقديم التعليامت اإللهية للبشر ،وتقديم
دي�ن اهلل الحق ،الذي هو دينه الفعلي وتعليامته الحقيقية ،وإيصالها بش�كلٍ
صحيحٍ ونقيٍ إلى البش�ر ،وطريقة إقامتها في واقع البش�ر ،هذه مسألة تعود
(جل ش���أنه) من يمتل�ك الحق في أن إل�ى من؟ إلى اهلل (س���بحانه وتعالى) وهو َّ يح�دد للعب�اد الطريق�ة التي يوصل به�ا هذا الح�ق إليهم؛ حت�ى ال يكونوا ضحي�ة لق�وى الطاغوت التي تفت�ري الكذب على اهلل ،الت�ي تخدع الناس بهدف السيطرة عليهم ،تفتري على اهلل ،وتقدم زورً ا عقائد ،أفكارً ا ،حاللاً ،
حرامً�ا ،إلزامات عملية تس�تغل بها الناس ملآربه�ا ،ألهوائها ،ملا تريده هي،
لتتمكن من السيطرة والنفوذ واالستغالل والتحكم بالبشر وبثروات البشر، ولتستعبد هؤالء البشر.
26
َ لَىَ هّ َّ َ َ ْ َ َ ْ ُ َ اهلل يق�ول} :إِن علين��ا للهدى{ ،يقول َّ (جل ش���أنه)} :وع اللِ َ ْ ُ َّ ب الس يل{ [النحل :من اآلية ،]9على اهلل هو ،مسؤوليته هو ،عندما يقول: قصد َ ِ َ ِ لَىَ َ ْ هّ ْ ُ َّ }إ َّن َعل ْي َنا لل ُه َدى{ ،وعندما يقولَ } : ق ب �� الس د ص يل{، الل ع و ِ ِ ِ ِ
يعني أنها من مس�ؤولياته (س���بحانه وتعالى) باعتباره هو ربنا ،رب السماوات واألرض ،وملكن�ا ،مل�ك السماوات واألرض ،ومل�ك الن�اس ،إلي�ه ه�و
أن يح�دد للبش�رية طري�ق الخير ،طريق الفلاح ،طريق العبادة ل�ه ،الطريق الصحي�ح واملنهج الحقيقي الذي يرس�مه للناس ليس�يروا علي�ه ،أن يحدد
ه�و الصراط املس�تقيم ،ومعالم هذا الصـراط التي تقودنا إليه ،والتي تس�ير
بن�ا فيه ،هذا إلى اهلل (س���بحانه وتعال���ى) ليس متروكً ا إلى الن�اس في أهوائهم، ف�ي اقتراحاته�م ،ف�ي مزاجهم ،ولذل�ك هو من يح�دد لنا (س���بحانه وتعالى) قن�اة الوصل به ،من يوصلنا باهلل ،ويصلنا عبره هدى اهلل ونور اهلل ،وليس�ت
مس�ألة متروكة للناس بأمزجتهم وأهوائهم وشهواتهم ورغباتهم ،ومتروكة
لالس�تغالل من قبل :املجرمين ،وكيانات الطاغوت ،واملضلين ،وأصحاب األهواء.
لَىَ
هّ َ ْ ُ
َْ َ
َّ
}َ يل َومِنها جآئ ِ ٌر{ ،يعني :هناك سبل كثيرة ب �� الس د ص ق الل ع و ِ ِ ِ
جائرة ،ولكن اهلل س�يتولى هو أن يرس�م لعباده الطريق الصحيح والصراط
ُ
ُهّ َ ْ
ْ َ ّ
��ل الل يه ِدي ل ِلح ِق{ [يونس :م�ن اآلي�ة ،]35فكيف يفعل اهلل املس�تقيم} ،ق ِ
(س���بحانه وتعال���ى)؟ ه�ل اهلل مثًل�اً يتخاطب بش�كلٍ مباش�ر مع عب�اده كلهم، ويس�معون نداءه بش�كل مباش�ر ،وتعليامته بش�كل مباش�ر ،أم هناك طريقة 27
معينة؟ الطريقة التي س�نَّها اهلل (س���بحانه وتعالى) مع عباده ،وهي سنة تتناسب
م�ع م�ا فطرهم عليه في واقع الحياة ،وفطر وصمم عليه حياتهم فيام اعتادوا عليه وألفوه ،كمجتمع بشري حياته ذات طابع اجتامعي ،وليست ذات طابع ف�ردي ،مجتم�ع نظمت حياته ،بنيت حياته ،حتى ف�ي طبيعة الخلق وتنظيم ش�ؤون الحي�اة كمجتم�ع متراب�ط بعض�ه ببعض ،حي�اة اجتامعي�ة ،مجتمع يحت�اج إلى قي�ادة واحدة ،إلى منهج واح�د ،في واقعه الفط�ري يتجه على
هذا األس�اس ،إن اتجه على أس�اس دين اهلل ،وإلاَّ اتجه بعيدً ا عن دين هلل بام يضله ،ولكن على هذا األساس( :منهج ،وقيادة).
ْ لاَ َ ُ ً هَّ ُ َ ْ الل يص َط يِف م َِن ال َم ئِك ِة ُرسال َوم َِن اهلل (س���بحانه وتعالى) قال} : َّ اس{ [الحج :من اآلية ،]75اهلل (س���بحانه وتعالى) الذي له :حق الهداية لعباده، انل ِ منهجا لحياتهم يسيرون عليه في حق التش�ريع لعباده ،حق أن يرس�م لعباده ً ه�ذه الحياة ،ليصلوا إل�ى الغاية التي يريدها لهم ،وتتحق�ق لهم كل النتائج
املرج�وة م�ن اس�تخالفهم في ه�ذه الحي�اة ،أو تق�وم عليهم الحج�ة إن لم
َ َ هَ ُ خْ َ ْ ُ َ َ ْ ُ َ َ َ َ يلتزم�وا ،اهلل ه�و من يمتلك ه�ذا الح�ق} ،أال ل اللق واألمر تبارك حْ ُ ْ ُهّ َّ هّ الل َر ُّب الْ َعالَم َ الك ُم إِال للِ ِ{ ،س�نته �ين{ [األعراف :من اآلية} ،]54إ ِ ِن ِ
مع عباده أن يصطفي من املالئكة ،وهم املالئكة ،رسًل�اً ،يختار لهذا الدور خصيصا من بين أوس�اط املالئكة م�ن يختاره لهذا ً (إليص�ال ه�داه) يختار
ال�دور ،م�ع أن املالئك�ة بكله�م مخلوقات صالح�ة ومس�تقيمة ،يعني :ال يوج�د مالئكة س�يئون ومالئكة صالح�ون .ال ،ولكن لم تكن املس�ألة إلى 28
ح�د أن يق�ول[ :أي واح�د من املالئك�ة يمكن أن يق�وم بهذا ال�دور] .ال،
يخت�ار اختيارً ا من داخل املالئكة من يوكل إليه ه�ذه املهمة وهذه الوظيفة،
أن يوصل هديه عن طريق الوحي ،إلى من يصطفيه للناس رس�ولاً ،ليرسله
هَّ ُ َ ْ َ
ْ َ لاَ
َ
ُ ً
َّ
اس{ ،ومن إلى الناس} ،الل يصط يِف م َِن الم ئِك ِة ُرسال َوم َِن انل ِ
أوساط املجتمع البشري.
في الواقع البش�ري كذلك املس�ألة في مس�ألة من ي�وكل اهلل إليه هذه
املهمة ،ومن يحمِّ له هذه املس�ؤولية ،ومن يختاره لهذا الدور ،ليس�ت مسألة انتخاب�ات مثًلً ،أن يطل�ب من عب�اده أن ينتخب�وا لهم رس�ولاً أو نبيًا ،فلو
تركت املس�ألة إل�ى االختيار البش�ري لكانت خاطئة ج�دًّ ا ،يعني :لو نأتي
مثًل�اً إلى مجتمع مكة ،في بداية حركة النبي (صلى اهلل عليه وعلى آله وس���لم)
كم لقي من التكذيب ،األغلبية في مكة كفروا به وكذبوه ،بل قال اهلل عنهم:
َ َ ْ َ َّ ْ َ ْ ُ لَىَ َ ْ رَ ْ ثهِم{ [يس :من اآلية ،]7األغلبية خذلوا ،األغلبية }لقد حق القول ع أك ِ
جحدوا الحق ،تنكروا للرس�الة ،كفروا بالرسول ،يعني :أنَّ األغلبية كانت إل�ى جان�ب أبي جه�ل وأبي س�فيان ،ومكذبي�ن بالرس�ول ،ول�و قيل لهم انتخبوا ،التجهوا إلى انتخاب أبي جهل أو أبي س�فيان ،وكفروا برسول اهلل
َ ْ لاَ محمد (صلى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) بل كانوا يقولون هم فيام بعد} :لو ُ ّ َ َ َ ْ ُ ْ ُ لَىَ َ ُ ّ َ ْ َ ْ َ َينْ َ يم{ [الزخرف :من اآلية،]31 ن ِزل هذا القرآن ع رج ٍل مِن القريت ِ ع ِظ ٍ غير هذا الشخص.
تأثرات الناس -أحيانًا -في بعض املجتمعات ،تفكيرهم ،ارتباطاتهم، 29
نظرته�م خاضع�ة لتأثي�رات معين�ة ،لتقييمات معين�ة ،العتب�ارات معينة، ينشدون إلى من يرونه صاحب سلطة وجاه وثروة ومال وقوة ،وليس إلى
من هو األجدر بحس�اب القيم ،واألخالق ،واملبادئ ،والصالحية الفعلية
لحمل الرس�الة اإللهية ،هل صالحية حمل الرسالة اإللهية هو مستوى ما تملكه من ثروة ،كتاجر كبير ،أو مستوى النفوذ والسلطة ،كصاحب سلطة
معين�ة ،وس�يطرة معين�ة عل�ى مجتمعك ،أو وجاه�ة معينة بي�ن املجتمع؟ |ال| لها اعتبارات أخرى ،اعتبارات أخرى تلحظ حتى في الخلق ،عندما
يخلق اهلل إنسانًا ،يخلقه ويعده إعدادًا ويهيئه تهيئة لهذه املهمة ولهذا الدور العظيم ،وليكون الئقً ا بهذه املسؤولية وفي مستوى هذه املسؤولية العظيمة
ْ
َ ْ اص َط َن ْع ُت َك لنِ َفـس{ واملقدسة ،يقول عن نبيه موسى (عليه السالم)} :و َ ْ َ َُْ َ َْ [ط�ه :اآلي�ة ،]41هكذا يقول اهلل ل�ه} :واصطنعتك لنِ فس{ ،وهنا يقول: َ ْ َ لاَ َ ُ ُ ً هَّ ُ َ ْ �لا َوم َِن َّ الل يص َط يِف مِن الم ئِك ِة رس ��اس{( ،ي َْصطَ فِي): } انل ِ َ َ ُّ َ خَ ْ ُُ خصيصا لهذه املس�ؤولية ،يقول} :وربك يلق ً خصيصا ويخلق ً يصنع خْ َ رَ َ ُ َ َ َ ُ َ َ ْ َ ُ َ اَ َ ُ ار ما كن له ُم ال ما يش��اء ويخت ِية{ [القصص :من اآلية ،]68ملاذا؟ ألن لَىَ َ َ َ َّ هّ َّ ْ َْ ُ َ يل{} ،إِن علينا هذه مسؤولية تعود إلى اهلل} ،وع اللِ قصد السبِ ِ َُْ َ للهدى{ ،هذه هي مسؤوليته (سبحانه وتعالى) وهو -إنفاذًا لهذه املسؤولية حق ورعاي�ة لهذه املس�ؤولية -يفعل ما ه�و إليه ،ما هو مس�ؤوليته ،ما هو ٌ إلي�ه ،وليس من اختصاص الناس ،هي مس�ؤوليته كي�ف يوصل هديه إلى
عباده.
30
ثم هل في هذه املس�ألة ما يوجب حساس�ية من الرسل واألنبياء؟
|ال| كل م�ا يمن�ح اهلل الرس�ل واألنبي�اء من مؤهلات عالي�ة لحمل تلك املس�ؤولية العظيمة هو يتجه إلى من ،وملصلحة من؟ للناس ،ذلك الرس�ول
وذل�ك النب�ي فيما يمتلكه م�ن مؤهلات عالية ،فيام ه�و عليه م�ن :رحمة، وحكمة ،وإرادة الخير ،وس�عة الصدر ،وح�رص عظيم على هداية الناس،
ومحبة عظيمة لصالحه�م ،وحكمة ،وذكاء ،ووو ...مؤهالت كثيرة جدًّ ا،
وطه�ارة ،وأمانة ،وصدق ،و ...كل تل�ك املؤهالت عائدها ملن ،مصلحتها
ملن ،خيرها ملن ،فائدتها ملن ،ثمرتها ملن؟ كلها للناس.
نجد-مثًل�اً -أن اهلل (س���بحانه وتعال���ى) يخل�ق صفوة عب�اده ،ويعدُّ خير
عباده لتحمل مس�ؤولية الرس�الة والنبوة ،ويوصل من خاللهم هديه ونوره إل�ى عب�اده ،ليكون�وا هم من يبلغ�ون ،ومن تن�زل إليهم كتب�ه ،ويوصلونها إل�ى العباد ،ويكونون هم من واقعهم البش�ـري مؤمنين ،ملتزمين ،معبِّدين
أنفس�هم هلل ،مطيعي�ن هلل ...ويمثل�ون ه�م القدوة ف�ي االلت�زام ،والتطبيق، والعمل ،وتعبيد أنفس�هم هلل ،والقيادة للبش�رية بالسير بها على أساس ذلك
الهدى ،وتربيتها على أساس ذلك النور ،وتبصيرها بتلك البصائر ،والعناية بها على ذلك األساس ،ملا فيه خيرها وفالحها.
31
قوى الطاغوت وم�ساعيها ال�شيطانية منذ حقب تاريخية مبكرة ،اإلنس�ان -بش�كلٍ عام -منذ بداية وجوده
ل�م يترك�ه اهلل همًل�اً ،بقيت مس�يرة الهداية عبر الرس�ل واألنبي�اء وورثتهم الحقيقيون مستمرة وقائمة ،وعلى مرِّ التاريخ كان هناك من يتصدى للرسل واألنبي�اء ،م�ن؟ ق�وى الطاغوت التي تس�عى إل�ى فصل الن�اس عن حلقة
الوصل بهدى اهلل ،عن مصادر الهداية.
ق�وى الطاغ�وت كان أه�م م�ا تركِّ ز علي�ه دائمً �ا أن تفص�ل الناس
ع�ن مصادر الهداي�ة ،ملاذا؟ لكي يبق�ى الناس مرتبطين به�ا وخاضعين لها ومتبعي�ن له�ا ،لك�ي تتمكن ه�ي أن تك�ون املوجه�ة ،واآلم�رة ،واملؤثرة، واملس�تغلة ،واملتحكم�ة بالن�اس ،ثم تصيغ له�م من األف�كار والتصورات
والعقائد ،وتوجههم فيام يتناس�ب مع مصالحها ،فيام يعزز نفوذها ،فيام يعزز س�يطرتها ،فيام يمكِّ نها أكثر ،واملس�ألة كلها هي مسألة اس�تغالل واستعباد،
توظف لها عناوين ،عقائد ،تصورات ،أفكارً ا ،وسنش�رح حول هذه النقطة املزيد واملزيد إن شاء اهلل.
الحظوا ،تس�عى قوى الطاغوت إلى التصدي للرس�ل واألنبياء،
وإث�ارة كل الحساس�يات ف�ي س�عيها لفص�ل الناس ع�ن مص�ادر الهداية، يس�عون -في الصدارة -للتكذيب بالرس�ل واألنبياء ،وفصل الناس عنهم،
وإبعاد الناس عنهم ،ويأتون إلثارة حساسيات يفترض أن تثار تجاههم هم،
ولي�س تجاه الرس�ل واألنبياء ،م�ن أول ما أثاروه من الحساس�يات والعقد 32
لتكذي�ب األنبي�اء وفصل الن�اس عنهم هي بش�رية األنبياء ،كان�وا يقولون:
بش�را مثلنا ،كي�ف يمكن أن يكون هذا البش�ر نبيًا ،كيف [هؤالء ليس�وا إال ً
يمكن أن نطيعه ،أن نتبعه ،وهو ليس إال بشرً ا مثلنا].
ويجعل�ون من هذه املس�ألة مبررً ا للتكذيب والجح�ود ،ثم يريدون من
الناس -في املقابل -أن يطيعوهم هم ،وهم ليس�ت املس�ألة متوقفة عندهم
في أنهم بش�ر فحس�ب ،إنام هم بش�ر قد فقدوا بشـريتهم وإنس�انيتهم ،يأتي
طغ�اة ،مجرمون ،ضال�ون ،ظاملون ،مفس�دون ،ال يمتلك�ون أي مؤهالت حتى إنس�انية ،يتحكمون باملجتمع ،يقدِّ مون كل ما يمكن أن يعزز نفوذهم وس�يطرتهم عليه ،ث�م يعملون على فصل هذا املجتمع ع�ن مصادر الهداية اإللهي�ة[ ،كي�ف تتبعون أولئك ،ليس�وا إال بـش�رً ا ،اتركوه�م ،]...وهذا ما
َ َ َ ْ َ أَ ُ َ ْ ذَّ َ َ َ ُ َ َ َّ ُ كان�وا يركِّ زون عليه} ،وقال المل مِ��ن قو ِم ِه الِين كفروا وكذبوا َ آْ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ حْ َ َ دلُّ ْ َ َ َ َ لاَّ َ رَ ٌ ّ ْ ُ ُ كمْ ْ خرة ِ وأترفناهم يِف الياة ِ ا نيا ما هذا إ ِ بش مِثل بِلِْقاء ال ِ ْ َ َ َ ُ َ ُ ُ َّ َ ُ َ ْ ُ َ َ رْ َ ُ َّ رْ َ ُ َ ُْ يأكل مِما تأكلون مِنه ويشب مِما ت شبون َ 33ولئِ ْن أ َطعتم َ َش�رَ ً ْ َ ُ ْ َّ ُ ْ ً خَّ َ ُ َ ��اسون[ {34املؤمن�ون[ ،]:كيف تطيعون ب� ا مِثلكم إِنكم إِذا ل رِ بـش�رً ا مثلكم؟! ه�ذا ال يمكن أن يكون نبيًا ،ال يمك�ن أن يكون مُ َتبَعً ا وأن
يُط�اع| .ال| ه�ذا مجرد بش�ر ،اتركوه ،ال تس�معوا له ،ال تس�تجيبوا له ،ال
تصدقوه].
َ َ ُّ َ كان�وا يتحرك�ون عل�ى هذا األس�اس ،كانوا يقولون} :ل ْو ش��اء َربنا لأَ َ َ َ َ لاَ َ ً نزل م ئِكة{ [فصلت :من اآلية ،]14لو شاء ألنزل مالئكة ،يكون النبي من 33
املالئك�ة ،ويأتي إلى واقعنا البش�ري فيتخاطب معنا باعتب�اره من املالئكة،
َ َّ َ ُ ْ ْ ُ ْ اَ ُ َ َ ْ لاَ ُ َ َ َ ْ َ ن��زل علينا ْ}فلاَإِن��ا َبِما أ َر ِس��لتم ب ِ ِه كف ِ��رون{ ،يقول�ون} :لو أ ِ ُ َ َّ َ َ ال َم ئِك��ة أ ْو ن َرى َربنا{ [الفرقان :من اآلية ،]21اس�تكبار كبي�ر جدًّ ا} ،ما ُ زَّ ُ ْ َ َ َ َّ َ ّ َ َ اَ ُ ْ ً ُّ َ نظر َ ين{ [الحج�ر :اآلية،]8 ن� ِ َن�ل المالئِك ْة لاَإِال ب ِ َاحللاَ ِق وما كن��وا إِذا ّم ْ ِ ُ َ ُ ْش�رْ ََْ َ َ َ َ َُ َ ْ َ َ }يوم ي ِ�ين َويقولون ��ر ْون ال َم ئِكة ب� َ ى ي ْومئِ ٍذ لِل ُمج ِرم حَّ ْ ً ْ ُ ً حجرا مجورا{[الفرقان :اآلية.]22 ِ وكام قلت هم يثيرون هذه الحساسية تجاه األنبياء ،مع أنها يفترض
أن تثار ضدهم هم ،هم ليس�وا إال بش�ـرً ا ،ولكن بش�ـر ضالون ،مجرمون، تائهون ،أما بش�رية األنبياء وكونهم من البش�ر ،فهذا أمر مطلوب ،أن يكون
ف�ي واقعه كبش�ر؛ ألن�ه معني ف�ي تبليغ هذا الدي�ن أن يكون ه�و من واقعه
البشري يقدِّ م النموذج ،ويقدِّ م القدوة ،ويقدِّ م القيادة في تطبيق هذا البرنامج الدين�ي ،يعني :ل�و أتى مثًل�اً َملَك من املالئك�ة ليخاطب الن�اس[ :اعملوا
ك�ذا ،وافعلوا كذا ،وال تفعلوا كذا ،واهلل أمركم بكذا ،ونهاكم عن كذا،]... سيقولون له[ :أنت من املالئكة ،أنت ما تعرف واقعنا كبشر ،نفسياتنا كبشر،
الواقع الذي نعيش�ه في مشاعرنا ورغباتنا وش�هواتنا كبشـر ،أنت استطعت
أن تلت�زم به�ذا الدين؛ ألنك م�ن املالئكة ،ما عندك ما عندنا كبش�ر] ،لكن عندما أتى النبي وهو بشر ،ثم كان هو أول من يلتزم بدين اهلل ،بتعليامت اهلل، بتوجيه�ات اهلل ،ومن يمثِّل القدوة واألس�وة في التطبيق وااللتزام والعمل، كان ذلك أقرب أثرً ا وأعظم حج ًة في الواقع البش�ري ،وحتى أكثر أنسً �ا في
الواقع البش�ري ،بل هذه نعمة على البش�ر أن يجعل منهم ،في ما هي س�نة 34
أيضا نعمة من واقع البشر ،أن يبعث من س�نن اهلل (سبحانه وتعالى) مع عبادهً ، فيهم رس�ولاً من أنفس�هم ،حتى في االنس�جام ،في االطمئنان ،في العالقة
َ َ ْ ت ل َ ُهمْ في ...أش�ياء كثيرة ،واحدً ا منهم ،أولئك يثيرونها كحساسية} ،قال َّ َهّ َ ُ ُّ لَىَ حَّ ْ ُ َّ َ َ ٌ ّ ْ ُ ُ ْ َ َ َ َ ُ ُُْ ع َمن يشاءُ كن الل يمن ُرسلهم إِن نن إِال بشـر مِثلكم ولـ ِ ْ َ مِن عِبا ِده ِ{ [إبراهيم :من اآلية.]11
يثي�رون ه�ذه الحساس�ية ،عندم�ا يفش�لون في إث�ارة هذه الحساس�ية،
يقولون[ :ال بأس بش�ر ،جيد يكون بشرً ا ال مشكلة] ،في األخير [لكن ملاذا شخصا آخر ،ملاذا يكون هو ذلك بذاته ،بنفسه ،ملاذا ما يأتي الهدى ً ال يكون
َ ُ َ َ َ ْ ذلّ ْ َْ َ ُ نزل علي ِه ا ِكر مِن بينِنا{ [ص :من اآلية،]8 ه�ذا إلى الجمي�ع مثلاً ]} ،أأ ِ
[مل�اذا ال يج�ي للزعي�م الفالني وهو كذل�ك ،والش�خصية الفالنية ،وفالن
الفالن�ي ،]...حس�د ،يثيرون مس�ألة الحس�د والعُ ق�د غير املب�ررة[ ،وملاذا
يختص اهلل ذلك أن يجعله رس�ولاً ،ملاذا؟ أبو س�فيان ،أبو جهل ،أبو فالن، أب�و علان ،والزعيم الفالني ،والتاج�ر الفالني ،ملاذا ال يكون الكل رسًل�اً
َ ْ ُ ُ لُُّ ْ ُّْ ئ مِنه ْم ر ام وأنبي�اء؟] ،ويقدِّ مون الكثير من املقترح�ات }بل ي ِريد ك ِ ٍ َ ُ ْ ىَ ُ ُ ً ُّ َ رَّ َ ً أن يؤت صحفا من شة{ [املدثر :اآلية ،]52كل واحد يشتي يصير عنده وحي ْ لاَ َ ُ َ َ َ ُ ُ وكت�اب ،وتن�زل عليه املالئكة ...وهذه العُ قَ �د} ،ل ْو ن ّ ِزل هذا الق ْرآن ّ َ ْ َ ْ َ َينْ َ َْ َ ُ َ َ َْ َ ٌ َْ َ لَىَ َ ُ يم ظ ع نزل علي ِه كزن أو جاء أ ال و ل } ، { ت ي ر ق ال ِن م ��ل ج ِ ٍ ِ ِ عر َ ٍ ََُ َ ٌ معه ملك{ [هود :من اآلية ،]12اقتراحات وأطروحات كثيرة يقدِّ مونها. كل م�ا في األمر أنهم يس�عون لفصل الناس ع�ن مصادر الهداية، 35
ليقدموا أنفس�هم كبديل يتمكن -دائمً ا -من التحكم بالناس ،التحكم بهم ف�ي أفكارهم ،ف�ي ثقافتهم ،في عقائدهم ،في تصرفاتهم ،في س�ير حياتهم
لالس�تغالل واالس�تعباد ،هذا كل ما في األمر ،ه�ذا كل ما يريده الطاغوت الذي يقدِّ م نفسه بديلاً عن منهج اهلل (سبحانه وتعالى).
وإذا قدَّ م نفسه بديلاً ،هو يستخدم العناوين الدينية ،يمكنه أن يستخدم
كل العناوين الدينية ،عقائد باس�م الدين ،أعاملاً باسم الدين ،شعائر للدين،
حتى املساجد } َما اَك َن ل ِلْ ُم رْشك َ ِني أَن َي ْع ُم ُروا ْ َم َساج َد اهلل َشاهِ ِدينَ ِ ِ لَىَ َ ُ ْ ْ ُ ْ َُْ َ َ َ ْ َ ْ َ ُُ ْ ��هم بِالكف ِر أولئِ��ك حبِطت أعمالهم{ [التوبة :م�ن اآلية،]17 ع أنف ِس ِ حْ حْ ْ َ َ َ َ ْ َ َ هّ َ َ ّ َ َ ََ َ ْ َ َ َ ُْ ْ َ َ }أجعلتم ِسقاية ال ِ ج ِد الرا ِم كمن آمن بِاللِ اج وعِمارة المس ِ َو يْالَ ْ اآل م ��و خ ِر{ [التوبة :من اآلية ،]19ولذلك نلحظ أن املس�ألة الرئيس�ية في ِ ِ
(جل ش���أنه) هو من إليه أن يحدد مصادر الهداية التي س�نة اهلل وهداية اهلل أنه َّ نرتب�ط بها ،باعتباره�ا مصادر للهداي�ة ،عبرها يصل إلينا اله�دى بكل ثقة،
بكل أمانة ،بكل مصداقية ،إذا فُصلنا عنها ضعنا ،وتهنا ،بل نس�تغل بش�كل كبير جدًّ ا ،ولو بقيت لنا عناوين الدين باسم الدين.
يْ وهن�ا نع�ود إل�ى واقعن�ا اإلسلامي ،نعم�ة ه�ذا الدي�ن }الَ ْو َم َ ْ َْ ُ َ ُ ْ َ ُ ْ أكملت لكم دِينكم{ ،الدين اإلسالمي اكتمل ،في كل ما يتعلق به من :تشريعات ،وتوجيهات ،وعقائد ،وتعليامت ،وفي كل ما نحتاج فيه إلى:
بصي�رة ،ووع�ي ،وفهم ،ومعارف ذات صلة مهمة بمس�ؤولياتنا في الحياة، دي�ن متكام�ل ،لم يب�قَ علينا إال أن نتبع ه�ذا الدين ،ونتمس�ك بهذا الدين؛ 36
لنحص�د ثمار هذا اإلتباع ف�ي كل ما ارتبط ب�ه من وعود إلهي�ة( :البركات، الخي�رات ،رضا اهلل ،رحمته ،فضله ،كرمه ،النص�ر ،العزة ،التمكين ،الخير
والس�عادة ف�ي الدنيا وف�ي اآلخرة) ،مس�ألة تبقى مرتبطة بامذا؟ بالتمس�ك، باإلتباع ،بااللتزام بهذا الدين ،وباالستيعاب لهذا الدين.
مبد�أ الوالية ال�ستمرار االت�صال بم�صادر الهداية كمال ه�ذا الدين في ذلك اليوم كان من خلال إعالن مبدأ عظيم
يحفظ لنا ماذا؟ يحفظ لنا استمرارية االتصال بمصادر الهداية ،هذه النقطة
املهم�ة ج�دًّ ا ،حتى ال نع�ود إلى الوضعي�ة التي كان عليه�ا املجتمع العربي وغيره في زمن الجاهلية.
مبدأ الوالية :الرس�ول (صلى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) كان يتحدث في
تل�ك الفترة األخيرة م�ن حياته عن قرب رحيله من هذه الحياة ،والرس�ول
كان ه�و بنفس�ه مصدر هذه الهداية التي نرتبط ب�اهلل من خاللها ،التي يصلنا من خاللها وحي اهلل وهديه ونوره ،وكان هو القائم على تطبيق هذا الدين، والقائ�د الذي يس�ير بالبش�رية ف�ي هذا االتج�اه ،يتحدث عن ق�رب رحيله
ُدعى ���ك أَن أ َ ُوش ُ من هذه الحياة ،وأنه س�يغادر هذه الحياة ،ويقول( :إِنِّي أ ِ امي َعد َع ِ اكم ب َ َلق ُ فَأجي���ب) ،يقول لهم ف�ي حجة الوداعَ ( :و َل َعِلّ���ي اَل أ َ ���ذا) ،وفعًل�اً أقلّ من ثالثة أش�هر بقي رس�ول اهلل (صل���ى اهلل عليه وعلى آله َه َ
وسلم) وتوفي ورحل عن هذه الحياة.
فإذً ا ،رس�ول اهلل (صلى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) عندما بلَّغ هذا البالغ 37
َّ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ َّ ْ َ
َ تَ َ ُ
الذي يقول اهلل عنهِ} :إَون لم تفعل فما بلغت ِرساله{ ،أتى ليقول
للجميع ،وملا األمة معنيةٌ به عبر األجيال إلى قيام الساعة ،وملا أكَّ ده تأكيدات
َاش���هد) ،من خالل قوله: متكررة من خالل قوله( :أ اََل َهل بَلَّغت ،اللهم ف َ
الش���اه ُد ِمنكُم الغَائ َ (فَل ُيبَلِّغ َّ ِب) ،ليبقى هذا البالغ لألمة جيلاً بعد جيل؛
َّ َ ْ َ ْ َ ألن�ه يحفظ لألمة أهم مس�ألة تعتب�ر مصداقًا لقول�هِ} :إَون ل ْم تفعل ف َما َ َّ ْ َ َ تَ ُ َ بلغت ِرس��اله{ ،أهم مس�ألة يعبِّر عنها هذا املضمون القرآني ،االرتباط بمصادر الهداية.
الم ِ وليَ ،وأَنَ���ا َمولَى ُ هلل َم اَ ِن ا َ الرس�ول قال ف�ي بالغه( :إ َّ ؤمنِين)،
كي�ف كانت والية رس�ول اهلل في امتدادها لوالية اهلل ،والي�ة هداية وقيادة،
يقود البشرية ويهديها على أساس ذلك الهدى (صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم) وله) ،هكذا بهذا التعبير الواضح ،ويقصد تلك نت َم اَ ك ُ َمن ُ ثم يقول( :ف َ
ؤمنِين ،أَولَى ِبهِم ِمن الم ِ الوالي�ة التي قال فيها عن نفس�هَ ( :وأَنَا َمولَ���ى ُ َذا َعل ٌّ ولهَ ،فه َ نت َم اَ ك ُ َمن ُ ُس���هِم ،ف َ أَنف ِ ِي) ،وهو إلى جانبه ،يمسك بيده، وله). ِي َم اَ َذا َعل ٌّ موجودٌ بشخصه واسمه ،ويقدِّ مه أمام الجميع ( َفه َ هنا الرس�ول (صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم) وهو يتحدث حتى في ذلك
الخط�اب ع�ن قرب رحيل�ه من ه�ذه الحياة ،لنع�رف ما هي املناس�بة ،بعد
مغادرة الرس�ول (-صلى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) لهذه الحياة ،من هو الذي يمثِّ�ل امتدادًا يوصلنا به ،من هو ال�ذي يعتبر -فعلاً -امتدادًا ملصدر الهداية
ذلك ،واألمة حتمً ا ستختلف ،واألمة حتمً ا سيدخل فيها الكثير من أشكال 38
االس�تغالل والتلعّ ب حت�ى بالعناوي�ن الدينية ،هنا الرس�ول (صلى اهلل عليه
وعل���ى آله وس���لم) بأم ٍر من اهلل وبالغً ا عن اهلل (س���بحانه وتعال���ى) بالغً ا عن اهلل،
ووضح ،وبيَّن ،وقدَّ م هذا البالغ الذي له تلك األهمية ،بالغ حسم املسألةَّ ، بمب�دأ ،إذا غ�اب أو عُ طِّ ل فكأن هذا الدين ال وجود ل�ه ،إذا غاب هذا املبدأ
أو عُ طِّ �ل؛ تعطلت ثمرة هذا اإلسلام في مش�روعه الترب�وي والحضاري، وف�ي ثمرة تعليامت�ه وتوجيهاته في الحياة ،وتحولت تل�ك التعليامت وتلك جهات ٍ العناوين إلى عناوين معطَّ لة ،تس�تغل وتوظَّ ف توظيفًا آخر ،من ِقبَلِ
أخ�رى ،كما كانت توظَّ �ف العناوين الدينية ف�ي الزمن الجاهلي الس�تعباد الناس واستغالل الناس ،ويُفترى على اهلل الكذب.
البالغ يوم الغدير كان تتويج ًا لن�صو�ص كثيرة نصوصا ً ولذلك نجد -مثلاً -فيام يتعلق باإلمام علي (عليه الس�ل�ام)
تتويجا لها ،نص يتحدث ً أخ�رى كثيرة ما قبل هذا البالغ ،يعتبر ه�ذا البالغ
وسى ،إاَِّل ُون ِمن ُم َ َة َهار َ َمن ِزل ِ َنت ِمنِّي ب َ عن عَ ل ٍِّي (عليه السالم) يقول( :أ َ أََّن ُه اَل َنب َّ ِي بَعدِي) ،ال نبي ،أنت س�تؤدي هذا الدور ليس من موقع النبوة، ِي)، ِي َم���ع القُرآن ،وَالقُرآن َمع َعل ّ (عل ٌّ ولك�ن من موقع الوالية ،يقولَ : َالح ُق َمع َعل ّ الح���ق ،و َ ِي َمع َ (عل ٌّ يق�ولَ : ِي) ،فأنت عندما تأتي لتبتعد عن ِ�ي ،ال تبتعد عنه إال وأنت تبتعد عن القرآن ،واملس�افة التي فصلت بينك عَ ل ّ نهجا ،يمثِّل هذا الدين في روحيته ،وأخالقه، وبي�ن عَ ل ِّي ،عَ ل ِّي الذي يمثِّ�ل ً
وأعامله ،وسلوكياته ،ومواقفه ،وحركته بهذا الدين في هذه الحياة ،ودعوته 39
بهذا الدين للبشرية ،للناس فيام يقدِّ مه إليهم ،املسافة التي تفصلك عن عَ ل ِّي هي مسافة كانت فاصلة بينك وبين القرآن ،وبينك وبين الحق.
الرس�ول (صل���ى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) كان يتحدث كثي�رً ا عن اإلمام
عَ ل ِّي (عليه السالم) حتى عن كامله ومؤهالته اإليامنية ،التي جعلته جديرً ا بهذا
الدور ،وضمن االختيار واإلعداد اإللهي ،حديث واس�ع وكثير ،ونصوص
َسولُه) ،يتحدث عنه فيقول: ُحُّب ُه اللهُ َور ُ َس���ولَهَ ،وي ِ هلل َور ُ ُح ُّب ا َ كثيرة( ،ي ِ
ك ِّل ُم ِ ِ���ي ُ (وَه َو َول ُّ ؤم ٍن بَعدِي) ،وكل هذه النص�وص توارثتها األمة في
اتجاهاتها الثقافية واختالفاتها الفكرية ،في مصادرها املعتبرة واملهمة ،التي ترج�ع إليها ،وتعترف بها ،وتعتمد عليه�ا ،لتبقى حجة ،ملاذا؟ ألن األمة إذا فارقت هذا املبدأ س�تكون ضحية ،ضحية للتضليل ،ستفتح على نفسها كل
النوافذ التي يطل منها كل ضال ،وكل متجبر ،وكل طاغية ،ليقدِّ م نفس�ه في
موقع القيادة ،وليقدِّ م نفسه في موقع الهداية.
عندما تنفصل األمة عن مصادر الهداية ،فتحت املجال لكل أولئك
م�ن :الطواغي�ت ،والجائري�ن ،واملتس�لقين ،والظاملين ،واملس�تكبرين،
كل منهم نفس�ه في موقع القيادة ،وليقدِّ م اآلخر نفس�ه واملضلين ،ليقدِّ م ٌ ف�ي موق�ع الهداية ،فذاك ينطق عن اهلل زورً ا ويفتري عليه كذبًا ،أو يخلط
الح�ق بالباط�ل ،على مثل ما كان عليه بنو إس�رائيل لينفِّق باطله بام يرفقه
مع�ه م�ن قليلٍ من الحق ،واآلخ�ر ليُخضع الناس له ،والكل الس�تغالل الناس.
40
وال�ذي حصل في واقع األم�ة ،عندما الكثير من الن�اس لم يَرُ ق لهم
ه�ذا املب�دأ بكل ما له من جاذبيه ،وبكل ما فيه من وضوح ،وبكل ما يحققه
م�ن ضبط ملس�ار األمة ومس�يرتها ف�ي دينها ،وحف�اظ عليها وعل�ى دينها، وحف�اظ عل�ى االمتداد لهذا الحق ،ليبقى في أجي�ال األمة يصلها جيلاً بعد
جيل بشكلٍ مضمونٍ وموثوقٍ ونقيٍ وسليم ،فتحت املجال ،فإذا بها تصيح الدخلْ م�ن كثرة ما هن�اك من دخل ،من كل ما هناك من كثي� ٍر كثي ٍر كثير من َ
الثقافي والفكري ،وليقول الجميع[ :صحيح ،أصبح لنا موروث إسلامي نختلف عليه] ،نختلف على كثي ٍر مام فيه من العقائد أيُّها صحيح ،والشرائع أيُّه�ا صحي�ح ،واألح�كام أيُّها صحي�ح ،هذا يق�ول[ :هذا حلال] ،اآلخر يقول[ :ذاك حالل ،ذاك حرام] ،ذاك قال|[ :ال| هو حالل ،ذاك واجب]،
اآلخر قال[ :ال ،هو ال يجوز]...
وهك�ذا اختالف كبير جدًّ ا ،لم تعد مس�يرة األمة عندما تنفصل عن هذا
املب�دأ املهم ،الضابط ملس�يرتها ،والحافظ الس�تقامة هذه املس�يرة ،في عَ ل ٍِّي
بكل ما يمثِّله عَ ل ِّي ،وبكل ما سبق أن تحدث عنه الرسول به ،وهي عبارات
مهمة وذات مضمون واضح ،لم تكن مجرد عبارات تش�جيعية ،أن رس�ول
َنت اهلل يريد أن يش�جع اإلم�ام عَ ِليّا يقول[ :إنه -ما ش�اء اهلل -رجال جيد (أ َ وس���ى ،إاَِّل أََّن ُه اَل َنب َّ ُون ِمن ُم َ َة َهار َ َمن ِزل ِ ِمنِّي ب َ ِي بَعدِي)] ليش�جعه ،أو ِي) ،ما ش�اء اهلل ما أعظمه!]؛ ���ق َمع َعل ّ َالح ُ الحق ،و َ ِ���ي َمع َ (عل ٌّ ليق�ولَ [ : حت�ى يرتاح نفس�يًا| .ال| ه�ي ذات مضمون ه�ادف ،يح�دد طبيعة الدور
لإلمام عَ ل ِّي (عليه السالم) بأنه سيمثل بعد رسول اهلل (صلى اهلل عليه وعلى آله 41
وسلم) حلقة الوصل واالمتداد األصيل في موقع القيادة والهداية ،ليس من
موقع النبوة ،ولكن من موقع الوالية.
نص آخ�ر مهم ج�دًّ ا ،وأتى في خط�اب الغدير، أيض�ا إلى ٍ ث�م نأتي ً
َم َّس���كتُم ِب ِه لَن َّقلَينَ ،ما إِن ت َ ِك فَيكُم الث َ وهو حديث الثقلين( :إِنِّي تَار ٌ يف اللط َ ِن ِ َهل بَيتِي ،إ َّ ترتِي أ َ َع َ َ���اب اهللِ ،و ِ كت َ َضلُّ���وا ِمن بَعدِي أَ َبدًاِ : تِ الحوض) ،ولتكون َي َ ُما لَن يَف َت ِرقَا َحتَّ���ى َي ِردَا َعل َّ ِي���ر نََّبَأنِي أََّنه َ الخب َ َ
هذه النصوص وهذه الواقعة ،التي هي مناس�بة الغدير ،واقعة الغدير ،واقعة أيض�ا بلفظه ثابت�ة وقطعي�ة ومعترفً�ا به�ا بين األم�ة ،وليكون ن�ص الثقلين ً
نصا معترفًا به ومتواتِرً ا بين األمة. ومضمونه العظيم املهم ً
فإذا باملس�يرة واضحة املعالم ،املس�يرة اإلسلامية في امتدادها الصحيح،
في مضمونها وحلقة وصلها املمتدة إلى رسول اهلل (صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم) واملضمون�ة واملوثوق�ة واملأمونة ،واضحة ،ومعاملها واضح�ة ،والطريق واضح، االنصراف عنه انصراف إلى ماذا؟ انصراف إلى واقع كبير من حالة الفوضى.
الطغاة وا�ستغالل العناوين الدينية يأت�ي الكثير م�ن األدعياء من يقدِّ مون أنفس�هم باس�م الدين وباس�م
اإلسالم وباسم القرآن ،وأتى الكثير والكثير من أولئك الطغاة ،والجائرين، والظاملي�ن ،واملضلي�ن ،وإذا به�م يوظِّ ف�ون العناوي�ن الدينية ،ويس�تغلونها
لصالحهم استغاللاً عجيبًا جدًّ ا ،ألم يقدِّ م بنو أمية أنفسهم باسم اإلسالم؟! 42
أل�م يجعلوا طاعته�م واالنقياد لهم والخض�وع لظلمهم عمًل�اً دينيًا وقرب ًة ديني� ًة ومس�أل ًة إيامني�ة؟! ول�م يكون�وا يجه�دون أنفس�هم بأن يقول�وا[ :ال
مثًل�اً -نح�ن لس�نا ظلم�ة ،نحن نقي�م الع�دل]| .ال| يقول ل�ك[ :ظالمصح ،لكن أطع الظالم وإن قصم ظهرك وأخذ مالك] ،أطع ،فتُقدَّ م الطاعة
للظلم ،والظاملين ،واملستكبرين ،واملضلين ،واملفسدين في األرض ،الذين
له�م برنامج آخر يقيمون الحياة على أساس�ه ،تُقدَّ م على أنها ضمن أمر اهلل (س���بحانه وتعال���ى) أن الذي يلزم بها هو الدين نفس�ه ،أليس�ت ه�ذه هي حالة استغالل للدين؟.
أليس النظام السعودي الظالم ،املفسد ،املنافق ،الذي يرتكب أبشع
الجرائ�م واملظال�م واملفاس�د ،والذي هو ب�ؤرة للضالل والباطل والفس�اد
ف�ي األرض ،ألي�س يقدِّ م اليوم نفس�ه بثوب اإلسلام ،وعناوين اإلسلام، وباس�م اإلسالم؟! أوليس يس�تغل حتى مشاعر الحج ،وحتى سيطرته على مكة وعلى املس�جد الحرام كمثل ما كان يفعل املش�ركون ،الذين س�يطروا
على مكة وعلى املس�جد الحرام وعلى ش�عائر الحج ،وأداروها حتى على مدى عش�رين عامًا من مبعث رس�ول اهلل بالرسالة ،إلى ما قبل وفاته بثالث سنوات؟! أوليست العناوين الدينية اليوم تستغل هنا وهنا وهنا ،فئات كثيرة
كام التكفيريون تاممًا ،يس�تغلونها لإلضالل للن�اس ،للخداع للناس ،للدفع للن�اس إلى مواقف ،لتحريك الناس حيث يش�اء ذاك الطاغي�ة أو يريد ،في
األخير توظَّ ف ملصلحة منافقين يعملون لصالح أمريكا وإسرائيل.
َّ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ َّ ْ َ
َ
تَ َ ُ
هن�ا ندرك معن�ىِ} :إَون لم تفعل فما بلغت ِرس��اله{ ،إنَ هذا 43
املبدأ العظيم يشكِّ ل ضامن ًة الستقامة وانضباط مسيرة اإلسالم الحق ،فيطبَّق ف�ي واق�ع الحياة بش�كلٍ صحيح ،ويقدَّ م ف�ي واقع الحياة بش�كلٍ صحيح،
ولي�س لالس�تغالل وال لالس�تعباد ،وليس لتمكي�ن ذلك الطاغي�ة أو تلك الجهة الظاملة أو املفسدة لتتحول إلى عناوين لالستغالل واالستعباد ،وليس اس�م ودب ،ليجعل من مقا ٍم معين ،أو عنوانٍ معين ،أو ٍ هب َّ ليكون بيد من َّ
معي�ن مقامًا للتضليل واالفتراء عل�ى اهلل بالكذب ،بمثل ما كان يحصل في العصـر الجاهلي ،يوم فصلت البش�رية عن مصادر الهداية ،فأتى اآلخرون
ليقول�ون[ :قال اهلل ،وأمر اهلل ،وهذا دي�ن اهلل ،ومن يفعل كذلك أطاع اهلل]، وهم يس�تغلون الناس تحت تلك العناوين ،ويخادعونهم ،ويؤثِّرون عليهم بذلك ،هذا جانب.
نحن معنيون �أن نفهم من هو علي! الجان�ب اآلخ�ر :لننظر إلى مس�ألة اإلم�ام عَ ل ِّي (عليه الس�ل�ام) ووالية
اإلم�ام عَ ل ِّي (عليه الس�ل�ام) م�ن حيث ما كان عليه اإلمام عَ ل ِّي (عليه الس�ل�ام)
من تمثُّلٍ لهذا الدين بش�كلٍ تام ،اس�تيعاب ،التزام ،عمل ،وعي ،اس�تقامة،
روحي�ةُ ،خل�ق ،موقف ،عمل ،فاإلم�ام عَ ل ٌِّي (عليه الس�ل�ام) كان أرقى األمة اإلسلامية بكلها ،وأعظم أصحاب رس�ول اهلل ،وأعظم املسلمين ،وأعظم
تالمي�ذ رس�ول اهلل (صلى اهلل علي���ه وعلى آله وس���لم) حملاً واس�تيعابًا ووعيًا والتزامًا بهذا الدين ،بهذا اإلسلام ،وتأثرً ا بهذا اإلسلام ،حمله علمً ا على
نح� ٍو ل�م يحمله غيره ،ف�كان باب مدين�ة العلم ،حي�ث قال الرس�ول( :أَنَا 44
ِي بَا ُبهَا) ،وكان هو (األذن الواعية) ،وكان هو الذي َعل ٌّ ِلم ،و َ َ���ة الع ِ َمدِين ُ
لم يغمض جفنه حتى يعلم ما نزل على رس�ول اهلل في ذلك اليوم (صلى اهلل
عليه وعلى آله وسلم) ثم حمله التزامًا عمليًا في روحيته وأخالقه ،ما حاد عنه،
ِي)، ِي َمع القُرآن ،وَالقُرآن َمع َعل ّ (عل ٌّ ما فارقه ،فلذلك قال رس�ول اهللَ :
َالح ُق َمع َعل ّ الحق ،و َ ِي َمع َ (عل ٌّ َ ِي) ،وكان هو الذي سيتحرك باألمة حينام
يتحرك بها بنا ًء على أساس ذلك الحق ،ال يحيد عنه ،وال يزيغ عنه ،ال هناك وال هناك ،وال بذاك االتجاه وال بذاك االتجاه.
َة َمن ِزل ِ َن���ت ِمنِّي ب َ فاألم�ة معنية لتفهم من ه�و عَ ل ِّي ،ماذا يعني( :أ َ وله، نت َم اَ ك ُ (م���ن ُ وله)َ ، ِي َم اَ وس���ى) ،ماذا يعن�يَ ( :ف َعل ٌّ ُون ِمن ُم َ َهار َ َانصر َمن َع���ا ِد َمن َعادَاهُ ،و ُ َالهُ ،و َ ُم وَال َمن و اَ ولهُ ،الله َّ ِ���ي َم اَ َذا َعل ٌّ َفه َ ���ره ،وَاخذُل َم���ن َخ َذلَه) ،ماذا تعن�ي كل تلك النص�وص ،ماذا تعنيه َص َ نَ تَ َّ َ َّ ْ ْ ْ َ ْ َ َ َ َ َ َُ تل�ك اآلي�ات ،ماذا يعنيهِ} :إَون لم تفعل فما بلغت ِرس��اله{؟ ألن هذا هو الكفيل بأن يحرر األمة من جديد من كل قوى الطاغوت والضالل التي تس�عى -دائمً ا -لفصل الناس عن مصادر الهداية؛ لتستغل الناس هي، وتتحك�م بالناس هي ،وتس�يطر على الناس ه�ي بالباطل ،وتفتري على اهلل الكذب ،ثم يوظَّ ف لها كل شي ٍء في الدين لخدمتها ،الزكاة مال لهم يأكلونه،
الحج وس�يلة لالس�تغالل ،املس�اجد ومنابرها في كثي ٍر م�ن األقطار تتحول إل�ى بؤر إلضالل الناس ،والس�عي للتأثير على الناس ف�ي ما يعبدهم لهم، وهكذا أش�ياء كثيرة ج�دًّ ا :مواقف ،والءات ،قتال ...حت�ى عنوان الجهاد 45
يحرك�ه التكفيريون ويحرِّ فونه ع�ن مواضعه ،ويتجهون بالن�اس إلى ما فيه
خدم�ة لذلك الطاغي�ة ،أو تلك الجه�ة ،أو تلك الجهة ،كل ش�يء يحرَّ ف،
لك�ن باالرتباط بمصادر الهداية تغلق تل�ك النوافذ الكثيرة التي ُفت َِّحت من وأطل منها علامء َّ فأطل منها الجائرون والطغاة من موقع القيادة، َّ كل اتجاه، السوء واملضلون باسم الهداية ،فذاك وذاك يغلقه هذا املبدأ العظيم.
الإمام علي منهج عملي ولي�س عنوا ًنا مذهبيًا! ث�م من يأت�ي ويقول[ :أنا من ش�يعة علي بن أبي طال�ب ،وأنا في هذا
علي فيه برسول اهلل ،يوصلني فيه بالقرآن، النهج اإلسلامي الذي يوصلني ٌ يوصلني في�ه بالحق] ،ثم ال يكون متبعً ا بمصداقية ،ال يكونوا على بصيرة،
على وعي ،على التزام في مسيرة حياته ،في مواقفه ،في تحمله للمسؤولية، ف�ي االلتزامات العملية ،هو بعيد ،أنت لو قلت[ :أنا مع علي] ،وأنت تبتعد عن الحق ،فأنت ابتعدت عن عَ ل ٍِّي بقدر ما ابتعدت عن الحق ،عندما تقول:
[أنا من شيعة علي] ،ثم تبتعد عن القرآن ،فاملسافة بينك وبين عَ ل ٍِّي هي بقدر املس�افة التي ابتعدت بها عن القرآن ،حين تبتعد عن تحمل املسؤولية ،أنت ابتعدت عن عَ ل ِّي بتلك املس�افة نفس�ها ،فعَ ل ٌِّي والحق اقترنا ،وعَ ل ٌِّي والقرآن
نهج�ا ،وليس يمثِّل مج�رد عنوان مذهب�ي ،أو عناوين ِ�ي يمثِّل ً اقترن�ا ،وعَ ل ٌّ يدَّ عيها اإلنسان ويتباهى بها ،ويدخل من خاللها في جدل مع هذا أو ذاك.
في النهاية تكون املسألة التزامً ا عمليًا ،استقامة على منهج اهلل ،اتباعً ا
منهجا متكاملاً في مبادئه وأخالقه وقيمه وسلوكه للقرآن ،تمس�كً ا بالحقً ، 46
وروحيت�ه ،وهن�ا ترى نفس�ك تدخل في التول�ي الواعي لإلم�ام علي (عليه
الس�ل�ام) ولرس�ول اهلل محمد (صلى اهلل عليه وآله وس���لم) ليمتد بك ذلك إلى الدخول واالنضواء تحت والية اهلل في االتباع لهديه والتمسك بمنهجه.
(((
المطلوب من كل م�سلم هو الت�سليم م�ن امله�م أن نتحدث عن قضية مهمة جد ًا إن فهمناها فس�نتقبل كل ما
يأتي من عند اهلل (سبحانه وتعالى) وهي قضية التسليم هلل (سبحانه وتعالى) يقول الشهيد القائد رضوان اهلل عليه:
نح�ن نؤمن أننا عبيد اهلل ،أليس هذا هو الذي نؤمن به؟ طيب :نقف عند
هذا ،ونتفهم املس�ألة جيداً ،م�ادام اهلل هو ملكنا ،وإلهن�ا ،ونحن عبيده ،هو مل�ك الس�موات واألرض ،ونحن عبيده ،مملوكون له ،م�ا ذا يعني؟ أليس هذا يعني أنه يجب أن نسلِّم أنفسنا له؟ أن نعبِّد أنفسنا له ،أن نقبل ما يهدينا
إليه ،ما يوجهنا إليه ،ما يرشدنا إليه ،ما يأمرنا به ،ما ينهانا عنه؟ أليس هذا هو منطق العبودية هلل (سبحانه وتعالى)؟ هذا هو منطق العبودية هلل .فمتى ما آمنت
باهلل على هذا النحو ،وعبدت نفسي هلل.
واق�رأوا القرآن الكريم كيف يرس�خ هذا املفهوم عن�د الناس ،حتى عند
أنبيائه ،أن عليهم أن يستش�عروا أنهم عبيد له ،ونحن نقول ،نش�هد بعبودية
رس�ول اهلل أكث�ر مام نش�هد بعبودية أنفس�نا هلل ،نصلي كل يوم ع�دة مرات، ((( من محاضرة للسيد القائد بمناسبة الوالية لعام 1439هـ.
47
ونقول في تش�هدنا :وأش�هد أن محمد ًا عبده ورس�وله ،ألم يعلمنا رس�ول
(صل���ى اهلل علي���ه وعلى آله وس���لم) أن نش�هد بعبوديته هلل؟ فكيف تنس�ى أنت
عبوديتك هلل! رس�ول اهلل يقول لك :اشهد كل يوم بأني عبد هلل ،ثم أنا يجب
أن أفهم بعد عندما ال بد أن أش�هد أن محمد ًا عبد هلل (س���بحانه وتعالى) إذ ًا فأنا من أنا بالنس�بة ملحمد (صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم) هل يمكن أن استنكف عن عبادة اهلل؟ هل يمكن أن أرى نفسي فوق رسول اهلل (صلى اهلل عليه وعلى
آله وسلم)؟ أعلى منه؟ ال.
في الوقت الذي أنت تشهد أن محمد ًا عبد هلل يجب أن تفهم أنك باألولى
أن تك�ون عبد ًا هلل ،فال تس�تنكف ع�ن عبوديته .ماذا يعني أنن�ي عبد هلل؟ ما يأتي من جانب اهلل يجب أن أقبله؛ ألنني عبد ملن؟ عبد لرحمن رحيم ،عبد لحكيم عليم ،لس�ت عبد ًا لطاغية ،لس�ت عبد ًا لجبار م�ن جبابرة األرض،
يأمر ،وينهى ،وال يفكر فيمن يأمرهم وينهاهم.
أما اهلل (س���بحانه وتعالى) فهو عندما يقول لي :انطلق على هذا األس�اس،
تقبَّ�ل هذا الش�يء ،س�ر على هذا النح�و ،فإنه هو الذي يعل�م املصلحة لي،
ولجمي�ع البش�ر من حولي ،وأن�ا من يجب أن أفهم أنني عب�د له فأتقبل منه ذلك ،وإذا لـم نرس�خ في أنفس�نا العبودية هلل (سبحانه وتعالى) فسنكون ممن
َ ْ َْ َْ َ ْ ُ َْ َ كف الم ِس��يح أن قـ�ال اهلل عنهم :يس�تنكفون عن عبادته }لن يس��تن ِ َْ َُ َُْ ُ َ َ ُ َ َ ْ ً للِهَّ يك��ون عب��دا ِ َوال المالئِكة المق َّربون{ (النس�اء :من اآلي�ة )172وال املالئكَ ة املُقَ رَّ بون ال يستنكفون أن يكونوا عبيد ًا له. 48
م�ا معن�ى ال يس�تنكفون أن يكون�وا عبي�د ًا ل�ه؟ مت�ى م�ا أمرهم بش�يء
س�ينفذونه ،عندما قال اهلل (س���بحانه وتعالى) ،أوحى إلى املالئكة أن يسجدوا
آلدم ،ألم يسجد املالئكة كلهم أجمعون إال إبليس؟ ألم يحصل هذا؟ ملاذا؟ ألن املالئكة يعيش�ون هذا الش�عور :بأنهم عبيد هلل ،فهم ال يس�تنكفون عن
َ َ َ َ قبول أي أمر يأمرهم به ،وسيس�لِّمون هلل ،ويعملونه بطيبة نفس} ،فسجد ْ َ َ ُ لُُّ ُ ْ َ مْ َ ُ َ لاَّ ْ َ َ ىَ َ ْ َ ْ رَ َ المالئِكة كهم أجعون إ ِ إِبلِيس أب واس��تكب{(البقرة :من اآلية)34 ما الذي دفع املالئكة؟ عبوديتهم هلل ،ما الذي جعل إبليس يرفض الس�جود
آلدم؟ م�ا ال�ذي جعله؟ ه�و أنفته ،وكبري�اؤه .أي هو لم يعبِّد نفس�ه هلل ،هو ل�م يكن صادق� ًا في عبوديته هلل ،ف�أدى به ذلك إلى أن يصبح م�اذا؟ ملعون ًا
مدحور ًا مذموم ًا إلى آخر أيام الدنيا ،يهتف البشر بلعنه.
أهم نقطة أن نفهم أن علينا أن نعبِّد أنفسنا هلل (سبحانه وتعالى) ،ثم آتي بعد
وأنا أنظر إلى األش�ياء ،أنظر إلى س�نة اهلل (س���بحانه وتعالى) في هداية عباده،
سنة اهلل في تشريعه لعباده (سبحانه وتعالى) ،أنظر إليها من منظار أنني عبد هلل
كيف سنته ،كيف سارت سنته في خلقه ،أتقبلها بسهولة.
من ه�ذا املنطلق ارجع إلى القرآن الكريم ،كي�ف خاطب اهلل في القرآن
الكريم رسوله محمد ًا (صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم) الذي أمرنا أن نشهد كل
َّ ْ َ ُ َ يَ ْ َ يوم عدة مرات أنه عبد هلل ،ألم يقل له} :اتبِع ما أ يِ وح إِلك{(األنعام)106 ْ َ َّ ُ ّ َ ُ ىَ يَ َّ ((( ألم يقل هو} :إِن أتبِع إِال ما يوح إِل{ هذا بالنسبة للنبي مع اهلل. ((( من محاضرة (اإلسلام وثقافة االتباع) للش�هيد القائد حسين بدر الدين الحوثي رضوان اهلل عليه.
49
ويقول رضوان اهلل عليه أيضاً:
ابتالن�ا اهلل أيض�اً فيما يتعل�ق بالجان�ب املعن�وي باعتب�ار اإلنس�ان يحب
التعالي ،والس�مو ،والرفعة ،وال يريد أن يرى فوقه من هو أعلى منه ،ال يريد
أن ي�رى فوق�ه من هو أعلى من�ه ،وال يريد أن يبصر فوقه م�ن يمكن أن يدين ل�ه بالفضل عليه ،أو بأنه أفض�ل منه ،هذه تناولتها ابتلاءات كثيرة جداً ،هذا
املج�ال تركيع�ي ،تركيعي كعبد هلل (س ��بحانه وتعالى) ،أحطم كل ه�ذا الكبرياء ابتالءات كثيرة منها الحج ،الحج ماذا يعني؟ أليس هناك بيت من أحجار ،في
م�كان محدد؟ أحجار ،وهناك مواقف أخرى ،عرفات ،منى ،مزدلفة ،مواقع
مح�ددة ،أماك�ن ترمي فيها أحج�ار ،أماكن الزم أن تبيت فيه�ا ،بيت البد أن تطوف حوله ،مسعى البد أن تتحرك فيه ،من هذه الصخرة إلى هذه الصخرة. أيض� ًا هذا ابتالء يتجلى مدى صدق ادعائي العبودية هلل ،أنا ال يمكن أن
أق�ول :ملاذا يأمرني أن أطوف حول هذه األحجار؟ م�ا قيمتها؟ ما فائدتها؟ ما أهميتها؟ ..وهكذا ..إلى مجاالت أوسع فيام يتعلق بهذا الجانب ،جانب
تحطيم الكبرياء التي تتعارض مع ما تتطلبه العبودية من تس�ليم هلل (س���بحانه
وتعال���ى) .م�ع ما يقتضي�ه اإلق�رار بالعبودية هلل من تس�ليم كامل هلل (س���بحانه
وتعالى).
(((
وح�ول موض�وع التس�ليم وأهميته يقول الس�يد القائد (حفظ���ه اهلل) في
رسالة وجهها إلى املجاهدين بمناسبة عيد األضحى:
((( من محاضرة للشهيد القائد السيد حسين رضوان اهلل عليه بعنوان (إن الذين قالوا ربنا اهلل ثم استقاموا.
50
ف�ي قصة نب�ي اهلل ابراهيم وابنه اسماعيل (عليهما الس�ل�ام) ،وقصة الرؤيا
الت�ي كان�ت اختبار ًا لهام يوض�ح مدى تس�ليمهام ألمر اهلل (س���بحانه وتعالى)،
ومحبتهما ل�ه ،فنب�ي اهلل ابراهي�م (عليه الس�ل�ام) بل�غ درجة عالية ف�ي إيامنه،
خَّ َ َ ُهّ ومكانت�ه عن�د اهلل تعالى ،عبر عنها الق�رآن بقول اهلل تعال�ىَ } :واتذ الل َْ َ َ ً إِبراه ِيم خلِيال{[النس�اء ]125وهو قدوة في إيامنه ووعيه وتفانيه في س�بيل
اهلل تعال�ى ،وق�د حكى الق�رآن الكريم قصته م�ع قومه ،وس�عيه لهدايتهم،
وتحطيمه لألصنام ،وس�عي قومه إلحراق�ه بالنار ألجل ذلك ،وكيف جعل اهلل النار برد ًا وسالم ًا على إبراهيم.
ث�م هجرت�ه ب�إذن اهلل عنه�م ،ودعائ�ه أن يرزق�ه اهلل ول�د ًا صالح�اً ،فهو
يعي�ش الغربة ،واملجتمعات من حوله تائه�ة في الكفر والضالل ،فرزقه اهلل بإسماعيل ول�د ًا صالح ًا وحليماً وزكي ًا ونبياً ،وقد أس�كنه في مك�ة بأمر اهلل
تعال�ى ،وبنى معه الكعبة بي�ت اهلل الحرام ،ثم أعلن الحج ونادى في الناس إلقامة هذه الفريضة من اس�تطاع إلى ذلك سبيال ،وفي مكة جرى االختبار
َ َ َّ َ َ َ َ َ ُ َّ يْ َ َ َ ع قال اإللهي إلبراهيم وإسامعيل (عليهما السالم)} :فلما بلغ معه الس َ ُ يَ ّيِ َ ْ َ َ َ ّيِ َ ْ حَ ُ َ َ ُ ْ َ َ َ َ َ يا ب� َّ َن� إِن أرى يِف المنا ِم أن أذبك فانظ��ر ماذا ترى{ وكانت رؤى األنبياء في املنام جزء ًا من الوحي ،فكانت هذه الرؤيا بالنسبة له إشارة
جعلته يتوقع أمر اهلل بذلك ،ويريد أن يهيئ ابنه إسامعيل (عليه السالم) ليكون
على جهوزية لتنفيذ أمر اهلل تعالى ،إذا أتى بذلك.
واملسألة صعبة جد ًا فاألب برحمته وشفقته على ابنه ومحبته له بالذات 51
إبراهي�م (عليه الس�ل�ام) وه�و الحليم على الن�اس كلهم ،وصاح�ب القلب ال�رؤوف ،والذبي�ح في الرؤيا هو إسماعيل ابنه الحليم الب�ار الطيب الزكي
الصالح النبي ،فامذا كان جواب إسماعيل (عليه الس�ل�ام) وهو ال يزال غالم ًا
َْْ َ ُْ َُ َ َ ُ َ َ َ ََ جد يِن لم يصل إلى مرحلة الشباب؟ } قال يا أب ِ ت افعل ما تؤمر ست ِ َ هَّ ُ َ َّ الصابر َ إِن ش��اء الل مِن ين{ [الصافات ]102لقد أجاب باس�تعداده التام ِِ
لتنفيذ أمر اهلل تعالى إذا أتى األمر من اهلل بذبحه ،وش�جع والده أن ينفذ أمر
اهلل إذا أت�ى بذل�ك وتجه�زا لتنفيذ األمر نفس�ي ًا وعملياً ،وذه�ب إلى منطقة
منى.
َ َ َّ َ ْ َ َ َ َ َّ ُ ْ َ ني { [الصافات ]103أسلام ألمر اهلل تعالى، }فلما أسلما وتله ل ِلجبِ ِ
وانق�ادا ل�ه ،وأضجعه عل�ى األرض عل�ى جبينه ( يعني ط�رف وجهه)
ََ ََْ ُ َ ْ َ وانتظ�را أم�ر اهلل تعال�ى ف�ي جهوزي�ة تامة للتنفي�ذ }ونادين��اه أن يا َ ْ َ َّ ْ َ ُّ ْ َ َّ َ َ َ جَ ْ إبْ َراه ُ الرؤي��ا إِنا كذل ِك ن ِزي ِي��م { [الصاف�ات} ] 104قد صدقت ِ ْ ْ ُ َ سنِني { [الصافات]105 المح ِ
اكتمل االختبار بنجاح تام ،فقد كان إبراهيم وإسماعيل (عليهما الس�ل�ام)
عل�ى اس�تعداد صادق لتنفيذ األمر اإللهي لو أتى أم�ر اهلل بالذبح ،وعلم اهلل منهام تس�ليمهام التام ألمر اهلل فكان ذلك كافي ًا في أن يعيشا التسليم ألمر اهلل
فوق كل محبة ورغبة ،وفوق كل مش�قة ومحنة ،وفي أن يكون درس ًا للبشر
َََ َْ ُ ْ من بعدهام }إ َّن َه َذا ل َ ُه َو بْالَلاَ ء ال ْ ُمب ُ اه ب ِ ِذب ٍح ني {[الصافات} ]106وفدين ِ ِ َ يم { [الصافات ]107واهلل (س���بحانه وتعالى) قد فدى إسامعيل (عليه السالم) ع ِظ ٍ 52
بذب�ح ،يعني أضحي�ة من األنعام أتى ب�ه جبريل (عليه الس�ل�ام) إلى إبراهيم
ال عن إسامعيل (عليهما السالم) . ليذبحه بد ً
إن الدروس من هذه القصة كثيرة ومهمة وأهمها:
ـ التس�ليم ألمر اهلل فوق كل الرغبات واأله�واء ،والطاعة هلل تعالى،
وإخض�اع النفس هلل ،واملحبة هلل فوق كل ش�يء ،والتفان�ي في طاعة اهلل
تعال�ى ،وم�ن أعظم م�ا ينطبق علي�ه ذلك هو االس�تعداد الت�ام الصادق لبذل النفس في س�بيل اهلل تعالى في مواجهة أعدائه املس�تكبرين الطغاة املعتدي�ن أمري�كا وإس�رائيل وعمالئهم من العرب الذي�ن يعتدون على
املسلمين بغير حق ،واهلل املستعان.
ـ إن اإلنسان إذا حمل هذه الروحية اإليامنية العالية من التسليم ألمر
اهلل حت�ى ل�و كان ذلك بذل النفس ،وكان أمر اهلل فوق كل رغبات نفس�ه سيكون جندي ًا عظي ًام هلل تعالى وإنسان ًا عملي ًا قوي ًا في تنفيذ توجيهات اهلل
سبحانه ،ويحظى برعاية من اهلل ،ومنزلة رفيعة عند اهلل ،ويحقق اهلل على يديه النتائج الطيبة .
لقد أصبحت تلك الحادثة العجيبة بام تقدمه من الدروس مناسبة وعيد ًا
لتخليدها واستذكارها واالستفادة منها ،ولالحتفاء والتبجيل والتقدير لهذه
الروحي�ة العالية ،وهذا اإلسلام العظيم الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل
(عليهما السالم) .
••• 53
الباب الثالث الإمام علي �أُ ِع َّد في م�سيرة حياته لهذا الدور اإلم�ام عل�ي (عليه الس�ل�ام) حظي في مس�يرة حياته بمس�ا ٍر متميز يؤهله
لهذا الدور ألنه مقام مهم ،مقام كبير ،ومقام عظيم يحتاج إلى عناية خاصة وتربي�ة فريدة ومتميزة وهذا ما كان ،لقد ش�اء اهلل (س���بحانه وتعالى) أن يكون
من يتولى تربية علي منذ طفولته املبكرة هو رس�ول اهلل (صلى اهلل عليه وعلى
آله وس���لم) الرس�ول (صلى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) أراد أن يرد الجميل إلى عمه أبي طالب؛ ألن أبا طالب قام بدور أساسي في كفالة النبي وتربيته بعد
وفاة جده عبد املطلب ،وبتدبي ٍر من اهلل (سبحانه وتعالى) تولى رسول اهلل (صلى اهلل علي���ه وعلى آله وس���لم) هو تربية وتنش�ئة اإلمام علي من�ذ طفولته املبكرة،
فس�لّمه وال�ده أب�و طال�ب إلى النب�ي (صلى اهلل علي���ه وعلى آله وس���لم) وكان
ذل�ك ما قب�ل النبوة ،فالنب�ي تولى هو منذ طفول�ة علي املبك�رة التربية لهذا
الرجل وأعدّ ه إعدادًا متميزً ا ،وش�رح اإلمام (عليه السالم) أجواء وواقع هذه التربية والعناية الكبيرة به من جانب الرس�ول (صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم) فق�ال« :وَ قَدْ عَ لِمْ تُمْ مَوْ ِضعِي مِنْ رَ ُس�ولِ اهللِ (صلى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) يص�ةِ :وَ َضعَ نِي فِي حِ ْج ِر ِه وَ َأنَا وليدٌ ي َُضمُّ نِي الخ ِص َ بِالْقَ رَ ابَ� ِة الْقَ رِي َبةِ ،وَ ا َمل ْن ِز َل ِة َ
إِلَى َصدْ ِرهِ ،وَ يَكْ نُفُ نِي فِي فِرَ اشِ �هِ ،وَ ُيم ُِّسنِي َجسَ دَ هُ ،وَ يُشِ مُّ نِي عَ رْ فَهُ ((( ،وَ كَ انَ
ال َخطْ َل ًة((( فِي �ي َء ثُمَّ ُي ْلقِمُ نِي�هِ ،وَ مَا وَ َجدَ لِي كَ ذْ بَ� ًة فِي قَ�وْ ل ،وَ َ الش ْ يَمْ َض�غُ َّ
((( َع ْرفه -بالفتح :-رائحته الزك ّية. الخ ْط َلة :واحدة َ ((( َ الخ َطل -كالفرحة واحدة الفرح -والخطل :الخطأ ينشأ عن عدم الرو ّية.
54
فِعْ ل» ((( .وهذه نقطة مهمة جدًّ ا ،أنه بمثل ما حظي اإلمام علي (عليه السالم)
بعناي ٍة خاصة من جانب الرسول واهتام ٍم كبير بتربيته وإعداده وتهذيبه(((.
الإمام علي نف�سه كان مهي�أ لهذا الدور اإلمام علي نفسه كذلك هيأه اهلل ألن يكون لديه قابلية عالية ،قابلية عالية
له�ذه التربية ،لو لم يكن لدى اإلمام علي نفس�ه فيام هي�أه اهلل له قابلية كبيرة
ملس�توى التفاعل الكبير مع هذه العناية من جانب الرس�ول ،ملا أثمرت تلك
الثمرة الكبيرة؛ ألنه مثلاً قد تحرص على أن تهتم بش�خص معين أو بابنك
مثًل�اً لتربيه تربية ،تحرص تبذل جهودًا كبيرة؛ ولكن ترى النتائج محدودة؛ ألن مس�توى القابلي�ة لدى املتلقي محدودة مثًل�اً ،لكن اإلمام علي ال ،كان مس�توى القابلي�ة كبي�رً ا لديه ،وتفاعل�ه هو ،وهو م�ن اهلل مهي�أ ألن يتفاعل
بشكلٍ كبير ،فكان كل جه ٍد تربويٍ من رسول اهلل يثمر في اإلمام علي ثمر ًة عظيم�ة ،يترك فيه أثرً ا بليغً ا ،يحقق نتائج�ه فيه «وَ مَا وَ َجدَ لِي كَ ذْ َب ًة فِي قَوْ لٍ ،
ال خطل ًة في فعل» استقامة عالية تفاعل كبير وتأثر عظيم ،ثم يحكي اإلمام وَ َ علي (عليه السالم) -بفعل هذا االرتباط القوي ،هذا االرتباط املتميز ،هذااالندماج الكبير في حياة النبي ،يحكي عن واقع النبي نفس�ه (صلى اهلل عليه
هلل تَعَ الَى بِ� ِه -صلى اهلل عليه وآل�ه -مِنْ لَدُ نْ وعل���ى آله وس���لم) «وَ لَقَ �دْ قَرَ نَ ا ُ
((( نهج البالغة ،ج 1ص .301 ((( من محاضرة في ذكرى استش�هاد اإلمام علي (عليه الس�ل�ام) للسيد القائد (حفظه اهلل) لعام 1434هـ.
55
الئِكَ تِ ِه يَسْ ُ�ل ُك بِ ِه طَ رِيقَ املَكَ ا ِرمِ ،وَ م ََحاسِ َ�ن َك مِنْ َم َ أَنْ كَ انَ فَطِ يمً ا أَعْ ظَ مَ َمل ٍ
أ َْخالَقِ الْعَ الَمِ َ ،ل ْيلَهُ وَ نَهَ ارَ هُ» الرس�ول نفس�ه حظ�ي بتربية عظيمة جدًّ ا ،وهو
كذلك كان مهيأ بش�كل عظيم جدًّ ا ،ال أحد يس�اويه من البش�ر فيام هيأه اهلل ل�ه من التأثر والتقبل ،فالنبي حظي برعاية خاصة من اهلل في التربية ،أن قرن اهلل به ملكً ا عظيمً ا من مالئكته ،يهتم بتربيته بتعليمه بتهذيبه بتوجيهه ،وهذا
الرج�ل ال�ذي تولى اهلل تربيت�ه وأنزل ملكً ا م�ن مالئكته لي�ؤدي هذا الدور أيضا تولى هو تربية علي ،يواصل اإلمام علي (عليه السالم) ويشرح لنا تلك ً َصيلِ ((( َأثَرَ ُأ ِّمهِ، األج�واء التربوية الرائعة فيقول« :وَ لَقَ �دْ كُ ن ُْت َأ َّتبِعُ هُ ا ِّتبَاعَ ا ْلف ِ
أخال ِقهِ ،وَ َيأْمُ رُ ني بِاال ْقتِدَ ا ِء بِهِ». يَرْ فَعُ لي فِي كُ لِّ يَوْ م عَ لَمً ا((( مِنْ ْ
تربية مستمرة يومية عناية خاصة ،اهتامم كبير ،تنشئة على مكارم األخالق
منذ الطفولة .ومام تميز به اإلمام علي (عليه السالم) أنه وباالختالف مع بقية املس�لمين في عصر النبي (صلى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) لم يحدث أبدً ا بأن تدن�س بدن�س الجاهلية ال بش�ركها وال بقذاراته�ا وال بباطله�ا ،بفعل هذا
االختص�اص ،هذه العناية ،هذه التربية ،هذا االرتب�اط الوثيق -منذ أن كان
طفلاً صغيرً ا -بالنبي (صلى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) هكذا يقول« :يَرْ فَعُ لي أخالقِ�هِ ،وَ َيأْمُ رُ ني بِاال ْقتِدَ ا ِء بِهِ .وَ لَقَ �دْ كَ انَ ي َُجاوِرُ فِي فِ�ي كُ لِّ يَ�وْ م عَ لَمً ا مِنْ ْ
ْ�ت وَ احِ دٌ يَوْ َمئِ ٍذ فِي ال يَ�رَ ا ُه غَ ْيرِي ،وَ لَمْ ي َْجمَ عْ َبي ٌ كُ لِّ َس�نَ ة بِحِ �رَ ا َء(((َ ،فأَرَ ا ُه وَ َ ((( ال َف ِصيل :ولد الناقة. ((( َع َل ًما :أي فضلاً ظاهرا. ً ((( ِحراء بكسر الحاء :جبل على القرب من مكة.
56
ِيج َة وَ َأنَا ثَالِثُهُ مَ ا ،أَرَ ى ال ِم غَ يْرَ رَ ُسولِ اهلل -صلى اهلل عليه وآله -وَ َخد َ اإلسْ َ ِيح ال ُّنبُوَّ ةِ». نُورَ الْوَ ْحيِ وَ الرِّ َسا َلةِ ،وَ أ َُشمُّ ر َ
ف�كان اإلمام عل�ي (عليه الس�ل�ام) بفعل ه�ذه التربية العظيم�ة واإلعداد
العال�ي والعناية الخاصة ارتضع الرس�الة ارتضاعً ا ،تعل�م األخالق ،عاش أجواء الهداية اإللهية واالختصاص الوثيق واالرتباط القوي جدًّ ا بالرسول
(صلى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) وواكب اإلسلام من يومه األول فكان أول املؤمني�ن برس�ول اهلل (صلى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) وتوجه ف�ي بقية حياته منطلقً �ا بانطالق� ٍة متميزة ،ليس�هم إس�هامًا كبي�رً ا ،عظيمً ا ،متمي�زً ا في إقامة
الرس�الة اإللهي�ة ،في إقامة الدين بجه�اده املرير ،وما بذله م�ن جهو ٍد كبيرة وهو يجاهد ويقاتل مع رس�ول اهلل (صلى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) موظِ فًا ما
منحه اهلل من مؤهالت عالية على املس�توى اإليامني وعلى املستوى الفطري بما أعط�اه اهلل من ش�جاعة فائقة وق�درات قتالية متمي�زة ازدادت وعظُ مَ ت باإليامن نفس�ه ،بفعل اإليامن نفس�ه فكان فارس اإلسلام ورجل اإلسلام تص�دى في كل ميادين القتال وفي س�احات الصراع وبطل اإلسلام الذي ّ
لصناديد الكفر وأبطال الش�رك والطغاة واملس�تكبرين بكل ما كانوا يمثلونه
من إمكانات وقدرات وتحدٍّ ضد اإلسالم وضد أهله(((.
((( م�ن محاض�رة للس�يد القائ�د (حفظ ��ه اهلل) ف�ي ذكرى استش�هاد اإلم�ام عل�ي (عليه الس�ل�ام) لعام 1434هـ.
57
بع�ض ما ورد في �أمير الم�ؤمنين (عليه ال�سالم) لقد س�عى رسول اهلل (صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم) في مقامات متعددة،
ومواطن متعددة ،وبشكلٍ كبير ،إلى الحديث عن اإلمام علي (عليه السالم)، الحدي�ث املتميز ،املعبر عن مقام اإلمام علي (عليه الس�ل�ام) ،عن دوره ،عن
منزلته ،وعن أهمية هذا الدور بالنسبة لألمة ،والرسول (صلى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) في س�عيه ذل�ك ،وفي اهتاممه ذل�ك كان يتحرك في هذه املس�ألة
كام في كل املس�ائل األخرى ذات الصلة بهداية األمة ،ذات العالقة بإرش�اد األم�ة ،ذات العالقة والصلة بتحديد معالم الهداية لألمة في مس�تقبلها إلى
قيام يوم الدين ،كان يتحرك وفق الخطة اإللهية ،وفق التعليامت اإللهية ،وفق التوجيه�ات اإللهية ،كل اهتامماته ،كل س�عيه ،كل حركت�ه كانت محكوم ًة
بالهداي�ة ،وكانت تقدِّ م هداي ًة لهذه األم�ة ،فلم يكن ذلك الحديث في تلك املقام�ات ،بتلك العبارات املهمة والعظيم�ة الداللة ،حديثًا عاديًا ،أو حديثًا
هامش�يًا ،أو حديثً�ا ترفيًا .ال ،وحت�ى العبارات التي تح�دث بها عن اإلمام
علي (عليه السالم) لها داللتها العظيمة واملهمة ،فهو فعل ذلك ،وقدَّ م ذلك، وتحرك بذلك في نفس السياق الذي يتحرك فيه وهو يقدِّ م الهدى لألمة كل
األمة من بعده إلى قيام الساعة.
(((
((( من محاضرة السيد عبد امللك في ذكرى استشهاد اإلمام علي (عليه السالم) لعام 1439هـ.
58
(�أنت مني بمنزلة هارون من مو�سى) اإلمام علي (عليه السالم) عندما نأتي إلى الحديث عنه من خالل النصوص
الديني�ة التي نقلتها األمة ،األمة وليس مذهب ًا معين ًا وليس فئة أو طائفة معينة
ب�ل نقلته�ا أهم مصادر األمة لدى الس�نّة ،ولدى الش�يعة ،أه�م املصادر في التراث اإلسلامي وبموثوقية عالية وبنصوص متظافرة ،وأصبحت مصنفة بام يقال عليه في املتعارف عليهم بين العلامء واملحدثين بالتواتر أي :تواترت
ونقله�ا ال�رواة من أبناء األمة أع�داد ًا كبيرة من الرواة أطراف� ًا كثيرة من أبناء ال بعد جيل. األمة وحفظتها األمة جي ً
(((
م�ن األحادي�ث املهم�ة الت�ي نقلته�ا األم�ة بالتوات�ر ،وبات�ت قطعي ًة في
موثوقية نقلها عن رسول اهلل (صلى اهلل عليه وعلى آله) ،في تأكيد صحتها عن رس�ول اهلل (صلى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) ،من النصوص العظيمة نص يبين
منزل�ة اإلمام علي (عليه الس�ل�ام) ،هذه املنزلة املتصلة بموقعه في اإلسلام، موقعه في حركة اإلسلام ،موقعه في حركة الرسالة اإللهية ،موقعه بالنسبة
لألمة ،بالنس�بة للمؤمنين ،حينام قال له الرس�ول اهلل (صلى اهلل عليه وعلى آله
ِي بَعدِي)، وسى ،إاَِّل أََّن ُه اَل َنب َّ ُون ِم ْن ُم َ َة َهار َ ِمن ِزل ِ َنت ِمنِّي ب َ وس���لم)( :أ َ
نص مه�م ،واملهم فيه أن نتفهم داللته ،الكثير من الناس يس�مع ه�ذا النص ٌ
النص�وص ،يس�مع األحاديث املهم�ة ،ولكنه ال يس�توعب داللتها ،ما تدل
عليه.
((( من محاضرة السيد عبد امللك في ذكرى استشهاد اإلمام علي (عليه السالم) لعام 1438هـ
59
إنن�ا كأمة إسلامية ،كمس�لمين يجب أن ن�درك أن هذا الن�ص يحدد لنا
طبيعة العالقة مع اإلمام علي (عليه الس�ل�ام) ،كيف هي عالقتنا كمس�لمين، وكأم�ة إسلامية ،كأمة محم�د باإلم�ام عليٍ (عليه الس�ل�ام)؛ ألنه�ا حددت موقع�ه ،في نفس الوق�ت قدَّ مت لنا طبيعة العالقة به من هذا املوقع املحدد، من هذه املنزلة املحددة.
الكثير من الناس نتيجة املش�اكل املذهبي�ة ،نتيجة التعبئة الخاطئة ،نتيجة
الجهد الكبير الذي بذلته حركة النفاق في األمة ،ينظر إلى اإلمام علي (عليه
الس�ل�ام) نظرة عادية ،ش�خص عادي مث�ل بقية الصحاب�ة ،صحابي من بقية نصا ال معنى الصحابة ،املس�ألة ليست كذلك أبدً ا أبدً ا ،وإال كان هذا النص ً
له وال داللة له ،أن يقول الرسول(صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم) لإلمام علي ومروي لدى األمة ،ولدى فرق ٌ (عليه الس�ل�ام) ،وهذا النص موثوق ومؤك�د
َة ِمن ِزل ِ َن���ت ِمنِّي ب َ األم�ة ،وف�ي أهم املصادر لدى ف�رق األمة ،يقول له( :أ َ وس���ى ،إاَِّل أَنَّ��� ُه اَل َنب َّ ُون ِم ْن ُم َ َه���ار َ ِي بَع���دِي) ،هل كان ه�ارون في أمة موس�ى حاله حال أي ش�خص من أمة موس�ى؟ حال أي واح�د من أولئك الذين كان لهم تلك الهفوات ،واالنحرافات ،واألخطاء ،واملش�اكل ،أم أن
موقعه كان موقعً ا مهمً ا جدًّ ا؟ نرجع إلى القرآن الكريم لنرى كيف كان مقام ه�ارون (عليه الس�ل�ام) ،الذي كان وزيرً ا بالنص القرآن�ي ،هو كان نبيًا ،لكن مقام النبوة ليس لإلمام علي (عليه الس�ل�ام)؛ ألنه ال نبي أبدً ا بعد رس�ول اهلل محمد (صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم) ،هو خاتم النبيين ،فام من نبيٍ من بعده أب�دً ا ،لكن نأتي إلى بقية األدوار ،بقية املقامات ،بقية املهام واملس�ؤوليات، 60
الدور الذي كان لهارون ،تجد أنه كان الوزير ،وكان املعاضد ،كان الشريك ف�ي األمر في طبيعة النهوض باملس�ؤولية ،كان الخليف�ة في القوم ،كان كان
كان ...دور كبير جدًّ ا.
فالنص هذا املقطوع بصحته ،املؤكَّ د ،الواضح ،هو يقدِّ م داللتين مهمتين
ج�دًّ ا :منزل�ة اإلم�ام عل�ي من جان�ب ،وطبيع�ة العالقة ب�ه بالنس�بة لألمة،
بمس�توى هذه املنزلة وبطبيع�ة هذا املوقع ،هو في نف�س الوقت يقدِّ م داللة قاطع�ة على املق�ام اإليامني لإلمام علي (عليه الس�ل�ام) ،بمثل ما يقدِّ م موقعه في حركة الرس�الة ،في طبيعة املس�ؤولية ،في النهوض بهذه املس�ؤولية ،في
عالق�ة األم�ة به كيف يج�ب أن تك�ون ،يقدِّ م دالل�ة قاطعة عل�ى أن أكمل جسد مكارم األخالق ،أعظم من األمة ،أعظم األمة إيامنًا ومنزلةً ،أعظم من َّ
جس�د تعاليم اإلسلام ،أعظم من اكتملت فيه كل الصف�ات اإليامنية ،وكل َّ
املقومات ومكونات الش�خصية املسلمة واملؤمنة من أتباع رسول اهلل محمد علي (عليه الس�ل�ام)؛ ألن هذا كان (صل���ى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) هو اإلمام ٌ
ه�و مقام هارون وحال هارون في أمة موس�ى ،هو أكمل أمة موس�ى إيامنًا،
أعظمه�م كاملاً إيامنيًا ،ب�كل املواصفات اإليامنية ،بكل العناصر التي تتكون واضح في هذا النص العظيم. ٌ بها الشخصية اإليامنية ،وهذا أمرٌ
ال في مقامه وفي مرتبته في األمة هذه هي علي (عليه الس�ل�ام) أو ً فاإلمام ٌ
هذه املرتبة ،هو أعلى هذه األمة ش�أن ًا ومقام ًا ودور ًا عظي ًام في اإلسلام في
نصرة نبي اإلسلام في معاضدة نبي اإلسلام بهذه الدرجة ولهذا املس�توى
بمنزل�ة ه�ارون م�ن موس�ى ثم ف�ي كامل�ه اإليامني وكامل�ه ف�ي املواصفات 61
األخالقي�ة واإليامنية وف�ي املواصفات املتعلقة باملس�ؤولية؛ ألنه ما من أحد
ف�ي أمة موس�ى كان في مس�توى كامل�ه اإليامني بكل ما يدخ�ل ضمن ذلك ويندرج ضمن ذلك بمستوى هارون ،هذا أمر الشك فيه وال نقاش فيه.
لألس�ف في بعض املناط�ق في بعض األماكن في بع�ض البلدان يصبح
اإلنس�ان فيه�ا دكتور ًا أو معل ًام في الجامعة وهو بع�د لم يطلع على مثل هذا النص خاصة في زمن فيه كس�ل كبير وقصور كبير في االطالع على التراث اإلسالمي فيأتي البعض ال معرفة له بذلك أو أنه ال يتفاعل مع هذا النص.
ه�ذا نص يفرض علين�ا كمس�لمين كمؤمنين لنا هذا االنتامء اإلسلامي
ننظ�ر إل�ى األمور الدينية من هذا املنظار النبوي ،م�ن املنظار الذي رآه النبي فيه وتحدث عنه النبي به فننظر إلى اإلمام علي (عليه الس�ل�ام) بهذه الجاللة بهذا القدر بهذه العظمة بهذه األهمية بهذا املقام بهذا املستوى.
ه�ذا ما يجب أن يكون هو األث�ر فينا ،التفاعل من جانبنا مع نص كهذا ،أم
أن املس�ألة تكون مجرد عبارات نتلفظ بها ليس لها أي أثر في أنفس�نا وال في نظرتن�ا وال ف�ي ثقافتنا وال في فهمنا إنام مجرد عبارات نقول بها على ألس�نتنا (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إال أنه ال نبي بعدي) ثم أنت ذلك
الذي تنظر لإلمام علي (عليه الس�ل�ام) وكأنه مجرد ش�خصية اعتيادية صحابي حاله حال أي واحد من الصحابة على حسب التعبير واملصطلح املنتشر ،ال.
يج�ب أن ننظ�ر من هذه النظرة من النظرة النبوي�ة أن نكون متأثرين بنبي
اإلسلام ال أن نك�ون متأثري�ن بالتيار الوهاب�ي التكفيري املش�ؤوم الضال 62
الذي يأتي لينشر حساسية بالغة حتى عن هذا املقام العظيم ،من ينظر بالعين
الوهابي�ة ه�ي عين عمي�اء مظلمة ال ترى الن�ور وال ترى البصي�رة وبالتالي
تطل�ع دائ ًام نظرة س�وداوية إلى رموز اإلسلام العظام إل�ى كل ما هو عظيم ومهم وجميل ومفيد في اإلسالم.
النظ�رة الوهابي�ة التكفيرية الظالمية هي نظرة تش�وه حتى نبي اإلسلام في
مقامه األعلى واألعظم واألس�مى واألكبر ،نظرة تس�يء إلى النبي بكله دعك
ع�ن تالمذته دع�ك عن أتباعه دع�ك عن أعوان�ه دعك عن اإلم�ام علي (عليه
السالم) في مقامه كوزير ومناصر وعظيم في هذا اإلسالم ،هذا أحد النصوص. ه�ذا الن�ص في ثقافتن�ا الدينية يج�ب أن نعلم�ه أبنائنا يج�ب أن يتعلمه
الطالب يجب أن يسمع به الجميع ال يجوز أن يكون هذا النص غائب ًا بفعل التغييب له في املناهج الدراس�ية الرس�مية أو بفعل السياس�ات التي تحكم
البرامج التثقيفية في وس�ائل اإلعالم؛ ألن وس�ائل اإلعالم كذلك معظمها
في العالم اإلسالمي تأتي وتتجاهل كل هذا.
ه�ذا ال عالقة له حتى بالسّ �نة وال بأهل السّ �نة وال بالتراث السّ �ني؛ ألن
التراث السّ ني كان له إسهام كبير جد ًا في نقل هذه النصوص وفي املحافظة
ال بعد جيل ،هذه عقدة وهابية يج�ب أن تكون منبوذة ومرفوضة عليه�ا جي ً
لدى األمة بكلها.
63
الإمام علي امتداد للإ�سالم الأ�صيل وله�ذا ن�درك حاجتنا ف�ي كل زمن لإلمام عل�ي (عليه الس�ل�ام) بمقامه،
بمنزلت�ه الت�ي حددت عالقتن�ا به ،منزلته ف�ي هذه األمة ،منزلته من رس�ول اهلل (منزل�ة هارون من موس�ى) ،مقامه في موقع الق�دوة والقيادة والهداية،
امت�داده األصيل ،املعبِّر عن أصالة اإلسلام ،عن اإلسلام ف�ي أصالته ،في
نقائه ،في سلامته ،تجس�يده لتلك املبادئ والقيم ،وتقديمه ألرقى وأعظم
نم�وذج مس�لم مؤمن قرآني ،هذا مهمٌ جدًّ ا لن�ا أن نعيه ،أنه ال بد منه في كل
زم�ن ،ف�ي كل مرحلة ،ف�ي كل عص�ر ،أنت بحاج�ة إلى أن تك�ون متطلعً ا
إلى عليٍ (عليه الس�ل�ام) لت�رى فيه النموذج األرقى في اتباع رس�ول اهلل ،في التمس�ك بالقرآن ،في االهتداء بهذا اإلسالم ،في االقتداء برسول اهلل (صلى اهلل علي���ه وعل���ى آله وس���لم) ،اإلم�ام علي (عليه الس�ل�ام) حلق�ة وصل تصلك
كل منهم( :قال رس�ول اهلل ،وكان برس�ول اهلل ،يوم يأت�ي اآلخرون ليق�ول ٌ رس�ول اهلل ،وفعل رسول اهلل) ،وهذا يقول ش�يئًا ،وهذا يقول شيئًا مختلفًا،
وهذا ...حتى تكون متشوشً ا.
من الذي يعبِّر فعلاً عن رس�ول اهلل أرقى تعبير ،أصدق تعبير؟ من الذي
يمثِّ�ل القدوة في االتباع واالقت�داء واالهتداء ،من؟ ه�ذا ،أو ذاك ،أو ذاك،
أو ذاك؟ األم�ة مالن زحمة ،هناك مَعْ لَم واضح جدًّ ا ،أصيل أصيل ،ال يقبل الغ�ش ،ال يقبل الزيف ،ليس ملوثًا وال بنس�بة ضئيلة أب�دً ا ،كاملاً في نقائه،
في أصالته ،في نظافته ،في سلامته ثقافيًا ،فكريًا ،أخالقيًا ،عمليًا ،مدرس�ة متكامل�ة ،ونم�وذج يحق للمس�لمين أن يفتخ�روا به حتى في أوس�اط كل 64
البشرية ،يقولون[ :شوفوا ما عمله رسول اهلل محمد ،وما عمله القرآن ،هذا
نتاج ونموذج وصناعة لهذا اإلسالم في علي بن أبي طالب] ،هذا جانب.
(((
(ال يحبك �إال م�ؤمن وال يبغ�ضك �إال منافق) حدي�ث آخر كذلك تناولته األمة وهو من األحاديث املش�هورة جد ًا بين
األم�ة حديث (ال يحب���ك إال مؤمن وال يبغض���ك إال منافق) وحديث
آخ�ر (ال يبغضك مؤم���ن وال يحبك منافق) من ل�وازم اإليامن الحظوا
هذه األهمية ،من لوازم اإليامن محبة اإلمام علي (عليه الس�ل�ام) ،فال يكتمل إيامنك إال بهذا ،وال يتحقق إيامنك إال بهذا.
أنت في الدين اإلسلامي أمامك في اإلسالم ارتباطات واضحة أمامك
منه�ج تس�ير عليه ،أمامك رم�وز وقادة وه�داة تتأثر بهم تقت�دي بهم تتعلم
منه�م ،تس�تفيد منهم ،هم قدموا ل�ك هذا الدين وحفظوه ل�ك نص ًا وقدموا
فيه القدوة العملية وجسدوه واقعا في حياتهم فقدموا أرقى صورة عن هذا الدين في واقع حياتهم.
هؤالء الرموز تربطك بهم هذه الرابطة ،رابطة أن تقتدي بهم أن تتأثر بهم
أن ترى في تطبيقهم اإلسلام القدوة لك أن تس�تفيد من معاملهم باعتبارهم حلقة الوصل.
نح�ن مثال في ه�ذا الزمان كم بيننا وبين النبي (صل���ى اهلل عليه وعلى آله)،
((( من محاضرة السيد عبد امللك في ذكرى استشهاد اإلمام علي (عليه السالم) لعام 1439هـ
65
مئات الس�نين ،من نقل لنا الدين عبر أجيال من جيل إلى جيل ،ما بعد وفاة
النب�ي (صلى اهلل عليه وعلى آله)؟ من نتطل�ع إليه كأمة بعد وفاة النبي ينقل لنا ه�ذا الدين ،يقدم أرقى صورة عن كامل هذا الدي�ن ،يقدم في واقعه الداللة
عل�ى الحق ف�ي أي مرحلة م�ن مراحل اختلاف األمة؟ نتطل�ع إلى اإلمام
عل�ي بن أبي طال�ب ،وإال ما فائدة هذه النصوص؟ م�ا فائدة أن يقول النبي كذلك؟.
النب�ي لم يكن مهرج ًا ومجرد رج�ل يصدر املديح هكذا يطلق العبارات
الفضفاضة لإلشادة باآلخرين بغية الرفع ملعنوياتهم والتشجيع لهم ،ال ،هو
نبي يقول الحق عن اهلل ،ينطق بالحق ،وما ينطق عن الهوى لم يكن يخضع
فيما يقوله ال لتأثيرات ش�خصية ،وال لعوامل قراب�ة ،وال مليول لها أي صلة
َ باله�وى م�ن قريب وال من بعي�د ،ولم يكن يتقول على اهلل حاش�اهَ } :وما ْ ُ َْ ُ َ َْ َ يْ ٌ ُ ح يوح( {4النجم). ين ِطق ع ِن اله َوى 3إِن ه َو إِال و
وحينما يقول ما قاله عن اإلمام علي (عليه الس�ل�ام) ه�و يدرك أهمية هذا
الدور لإلمام علي (عليه الس�ل�ام) من بعده ألنه سيرحل من الذي سيرث منه
ويحمل منه روح اإلسالم ،قيم اإلسالم ،معارف اإلسالم ،حقائق اإلسالم. وحينما تحص�ل حال�ة االختلاف بين أوس�اط األم�ة من ال�ذي تتطلع
إلي�ه األمة باعتب�اره الحلقة األوث�ق واألرقى واألكمل واألع�رف واألعلم ال ما قيمة وبدرج�ة املوثوقية العليا؟ يتطلع إلى اإلمام علي (عليه الس�ل�ام) وإ ّ ه�ذه النصوص؟ ،فاإلمام علي (عليه الس�ل�ام) عالقتك به عالقة إيامنية كرم ٍز 66
إيامني أنت عندما تأتي لتتعرف على اإلسالم في ثقافته في معارفه.
اإلسالم معلومات معارف وعلوم تتعرف على صالتك ،على صيامك،
عل�ى حج�ك ،على زكاتك م�ن أهم مص�در يوصلك بالنبي ،م�ن هو باب
مدينة علمه؟.
عندم�ا تأتي لترى االختالف بين أوس�اط األمة فتبق�ى متحير ًا من تطلع
إليك عالمة فارقة؟ اإلمام علي حبه إيامن وبغضه نفاق ال يحبك إال مؤمن. فالحظ�وا جريمة كبيرة واهلل جريمة أن يغيب مثل هذا النص في املناهج
الدراس�ية ،البعض يصبح دكتور ًا في الجامعة لم يطلع بعد على هذا النص؛ ألنه اقتصر في معارفه واطالعه وفي ثقافته على املناهج الدراسية املحكومة
بسياس�ات من جهلة ليس�وا مؤتمنين عل�ى األمة ،جهلة تحكموا وساس�وا وقرروا وأخضعوا أنفس�هم العتبارات مادية (فلوس) من السعودية ،وجاء
توجيه ل�وزارة التربية والتعلي�م أو للمناهج الجامعي�ة كيف تكون وظللت بهذا أجيال من أبناء األمة.
(((
فالرس�ول (صل���ى اهلل علي���ه وعلى آله وس���لم) ق�دم حب اإلمام عل�ي (عليه
الس�ل�ام) كعالمة فارقة -وهذه من أهم النق�اط على اإلطالق -عالمة فارقة
ِض َك َل يُبغ ُ ؤمن ،و اَ ُ���ك إاَِّل ُم ِ ُحب َ بي�ن اإليامن والنف�اق ،عندما قال له :اَ(ل ي ِ إاَّ ِل ُمنَافِ���ق) ،وهذه النصوص من النصوص الت�ي تناقلتها األمة ،وبحكمة إلهية ،وبإقام ٍة من اهلل للحجة على عباده ،وعلى هذه األمة نفسها ،أن رسول
((( من محاضرة السيد عبد امللك في ذكرى استشهاد اإلمام علي (عليه السالم) لعام 1438هـ.
67
اهلل (صل���ى اهلل علي���ه وعلى آله وس���لم) عندما ب�ذل جهدً ا كبيرً ا ف�ي إيصال هذا اله�دى إلى الن�اس ،في تقديم ه�ذه الحقائ�ق والنصوص املهم�ة جدًّ ا إلى أيض�ا -تكفَّل بحفظها؛ لتبق�ى في تراث األم�ة ،تتناقلها األمة األم�ة ،اهللً -
جيًل�اً بعد جي�ل في أه�م مصادرها ،وكنص�وص تُجمِع وتقط�ع بصحتها، علامء األمة ،املعتبرون لديها ،مصادرها املعتبرة لديها تؤكِّ د صحتها ،وتُجمِع
كل من عنده يتناقل ه�ذه النصوص ،فتُخلَّد لدى عل�ى صحته�ا ،وتتناقلهاٌ ، بأمس األجيال ،لتكون حج ًة هلل [(س���بحانه وتعالى)] على هذه األمة التي هي ِّ
الحاجة إلى هذه املسألة.
ماس�ة جدًّ ا ،والواقع يش�هد ،واقع األمة ش�هد على حاجة األم�ة بحاجة َّ
األم�ة إل�ى كل هذا ،إلى معلم يمثِّ�ل عالمة فارقة عند اختلاف األمة ،عند
تضاربه�ا ،حينما تختلف األمة على املنه�ج ،حينام تختلف عل�ى النموذج، حينما تختل�ف على ما يعبِّر عن الش�خصية اإلسلامية الحقيقي�ة التي تعبِّر
عن حقيقة اإلسلام ،حينام تختلف وتتعدد الطرق ،حينام تختلف وتتشوش التفسيرات والتقديامت ،وتتضارب اآلراء واألهواء ،تحتاج األمة إلى عالمة
فارق�ة ،تحتاج إلى معالم واضحة ،تحتاج إلى أعالم بيِّنة ،هل تركها اهلل من
دون ذلك؟ هل تركها اهلل لتعيش حالة الحيرة والتضارب هذه؟ |ال|.
فالرسول (صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم) هو تحرك ضمن الخطة اإللهية،
وم�ا قدَّ م�ه كان ضمن حركته في هداي�ة األمة ،وحركته في هداية البش�رية، وق�دَّ م ذلك على أرقى مس�توى ،وبأعظم ما يكون ،وضمن الس�نن اإللهية
مع كل األنبياء.
68
حب الإمام علي ال�ضمانة الأ�سا�سية لمواجهة الزيف ؤمن، ُك إاَِّل ُم ِ ُحب َ رس�ول اهلل حينام ق�ال لإلمام علي (عليه الس�ل�ام) اَ(ل ي ِ ِض َك إاَّ َل يُبغ ُ و اَ ِل ُمنَافِق) ،قدَّ م لألمة عالمة فارقة تبقى لالستفادة منها إلى
قيام يوم الدين ،إلى يوم القيامة ،إلى نهاية أمر هذه األمة وهذه البشرية ،هذه األمة هي آخر البشر ،هي في الحقبة األخيرة للتاريخ البشري ،ختام النبوة،
خت�ام الكتب اإللهي�ة هو يعني ذلك ،هو يدل على ذلك ،النصوص القرآنية
هي تؤكِّ د ذلك.
فرس�ول اهلل (صلى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) يدرك أن أكبر مش�كلة لألمة
في داخلها ستكون من خالل حركة النفاق ،التي يمكن أن تتزايد أنشطتها، فتش�كل خط�ورة بالغة على األمة في وأن تتق�وَّ ى حركتها في داخل األمةِّ ، كل شيء ،تصنع حالة من التشويش ،حالة رهيبة من التضليل على املستوى
الثقافي والفكري ،تس�عى إلى االنحراف بمسار األمة ،حركة النفاق واحدٌ
من أخطر ما تفعله باألمة أن تس�عى لالنحراف بمسار األمة عام يمثِّل املنهج اإلسالمي األساس والصحيح ،عن اإلسالم املحمدي األصيل.
وحركة النفاق أخطر ما فيها أنَّها في ظاهر الحال تعلن إقرارها ،وتعبِّر عن
إسلامها وإيامنها بكل املعالم الرئيس�ية البارزة جدًّ ا في اإلسالم ،التي تمثِّل
عالمة فاصلة بين اإليامن والكفر ،فتعلن -مثلاً -إسلامها وإيامنها بالقرآن،
باإلسلام جمل�ة ،بالرس�ول (صلى اهلل علي���ه وعلى آله وس���لم) ،تقدِّ م نفس�ها كحركة مس�لمة تنتمي لإلسلام ،وتقدِّ م نفس�ها ضمن الوس�ط اإلسالمي، 69
َ َ َ ْ َ ُ َ َ ُ َ ْ َ ُ َّ َ داخ�ل الصف اإلسلامي} ،إِذا جاءك ال ُمناف ِقون قالوا نش��هد إِنك َ ُ ُ هَّ ل َرس��ول اللِ{ [املنافقون :من اآلية ،]1هكذا كانوا في زمن رسول اهلل (صلى اهلل َ ْ َ ُ َّ َ َ ُ ُ هَّ عليه وعلى آله وسلم) يقولون} :نشهد إِنك ل َرسول اللِ{ ،فاملنافق يشهد الش�هادتين ،ال يجرؤ على أن يعلن كفره برس�ول اهلل محمد (صلى اهلل عليه
وعلى آله وس���لم)؛ ألنه -في واقع الحال -لو كفر برس�ول اهلل ،خالص خرج م�ن الصف اإلسلامي ،وه�و ال يريد أن يخرج من الصف اإلسلامي ،هو
يدخل ضمن هذا الصف ،ينتمي إلى األمة ،يتحرك في أوس�اطها ،ينتس�ب إليها ،هو -في نفس الوقت -ال يجي ليقول أنه كافرٌ بالقرآن ،وال أنه مُ نكِ رٌ
ألركان اإلسالم ،وال وال ...جملة من األشياء ،وألن املنافقين هم أصناف، وهم أنواع ،بحس�ب التصنيف القرآن�ي ،وتحدثنا في هذا في كلامت كثيرة، فمنه�م م�ن يتحركون تحت عناوي�ن دينية ،منهم أصحاب مس�جد الضرار
ً َ ذَّ َ خَّ َ ُ ْ َ ْ ضارا ً َو ُك ْف��را ً َو َت ْفريقا ً َبينْ َ ال ْ ُم ْؤ ِمننيَ َ ِ جدا رِ }والِين اتذوا مس�� ِ ِ ْ َ ً ّ َ ْ َ َ َ َ َ َ ُ ُهَ َُْ ِإَورصادا ل ِمن حارب اهلل ورسول مِن قبل{[التوبة :من اآلية ،]107هؤالء صن�ف م�ن املنافقي�ن ،حركتهم حركة مس�اجد ،حرك�ة عناوي�ن دينية ،من
َ َّ
هّ
يْ
ْ
خ ِر{[البقرة :م�ن اآلي�ة ]8ويتحرك تحت يقول�وا} :آمنا بِاللِ َوبِالَ��و ِم اآل ِ
العن�وان اإليامن�ي ،هؤالء صن�ف من املنافقي�ن ،تحدث عنهم مَ�نْ ؟ القرآن الكريم .فضحهم مَنْ ؟ القرآن الكريم .كشفهم مَنْ ؟ القرآن الكريم.
صنف آخر| ،ال| ،يتحدث تح�ت عناوين مصلحية :إما عنوان وطني،
أو عن�وان قوم�ي ،أو أي عنوان ...ولكنه يركِّ ز على عن�وان املصلحة العامة 70
َ َّ َ حَ ْ ُ ُ ْ ُ }إِنم��ا نن مصلِحون{ ،القرآن هو الذي تح�دث عنهم بهذاِ} :إَوذا َ َُ َ ُْ ُ ْ َ ْ َ ُ ْ َّ َ حَ ْ ُ ُ ْ ُ َ ض قالوا إِنما نن مصلِحون{ [البقرة: قِيل له ْم ال تف ِس��دوا يِف األر ِ اآلي�ة ،]11فالعن�وان املصلح�ي واإلصالح�ي ه�و عن�وان رئيس�ي لبعضهم، يتحرك�ون من خالله ،وينش�طون م�ن خالله ،وله�م أنش�طتهم وبرامجهم
وحركتهم الواسعة في داخل هذه األمة ،ثم كذلك البعض منهم| ،ال| ،قد يكونون إلى درجة املجاهرة بالشك ،املجاهرة بالحديث عن عناوين رئيسية
في اإلسالم للتشكيك حولها ،هذه فئة منهم معينة.
فئات كثيرة تحدثت عنهم سورة التوبة ،سورة (املنافقون) سورة باسمهم
في القرآن الكريم ،حديث واس�ع عنهم في س�ورة البقرة ،اهلل تحدث عنهم
بأكث�ر ،وف�ي نفس الوقت الحديث في القرآن عنهم أس�وأ من الحديث عن الكافرين ،وهذه من أهم املس�ائل التي ينبغي على كل مسلم أن يفهم عنها،
بالح�د األدنى يفهم عنه�ا نقاطً ا عامة ،نقاطً ا أساس�ية ،نقاطً ا ضرورية؛ ألن هذه املسألة تشكِّ ل خطورة كبيرة في واقع األمة.
فالرس�ول (صلى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) قدَّ م ضمن عمله لهداية األمة،
وحركت�ه لهداية األمة ،ما يمثِّل ضامنة أساس�ية لها ملواجهة الزيف ،ملواجهة التحري�ف ،ملواجه�ة التش�ويش ،ملواجه�ة كل مس�اعي االنح�راف الت�ي
س�تتحرك بها قوى النفاق في داخل األم�ة من بعد وفاته ،وفي كل زمن إلى
ؤمن، ُك إاَِّل ُم ِ ُحب َ قيام الس�اعة ،وقال ع�ن اإلمام علي (عليه الس�ل�ام) :اَ(ل ي ِ ِض َك إاَّ َل يُبغ ُ و اَ ِل ُمنَافِق). 71
فاملنافق�ون ال يس�تطيعون أن يعلن�وا موقفً�ا عدائيً�ا ،أو أن يتحدث�وا عن
بغضه�م لرس�ول اهلل (صلى اهلل عليه وعلى آله وس���لم)؛ ألنهم ل�و فعلوا ذلك، خلاص يعني حد فاصل بين اإليامن والكفر ،بين اإلسلام والكفر ،يصبح خارجا من اإلسالم ومن األمة اإلسالمية ما دام يتحدث عن بغضه لرسول ً
هلل ،أو ع�ن كف�ره برس�ول اهلل ،وكما قلن�ا الق�رآن ق�دَّ م ش�هادة مؤكَّ �دة لهم
َ ْ َ ُ َّ َ َ َ ُ ُ هَّ باعترافه�م بنبوة رس�ول اهلل وإقرارهم بها }نش��هد إِنك لرسول اللِ{،
أيضا- ع�اد معهم زيادة (اللام) للتأكيد ،ولكن ال بد م�ن أن يكون هناكً - عالمات فارقة ،األمة بحاجة إلى هذا (عالمات فارقة) تكشف -ليس فقط املسلم من الكافر -املسلم من املنافق ،داخل األمة ال بد من حالة فرز.
حالة الفرز �سنة �إلهية اهلل [(س���بحانه وتعالى)] من أعظ�م ما قدَّ مه من هدى ف�ي كتابه الكريم أنه
أكَّ د لنا سن ًة من سننه ،سنة إلهية ضمن أسلوب اهلل -إن صح التعبير -ضمن الطريق�ة التي يعتمده�ا اهلل مع عباده ،هي :حالة الفرز ،حالة االختبار ،حالة الغربل�ة ،حال�ة التنقي�ة ،حالة الكش�ف للحقائ�ق ،أن يمي�ز اهلل الخبيث من
َّ اَ َ ُهّ َ َ َ ْ ُ ْ َ لَىَ ني ع الطي�ب ،اهلل قال في القرآن الكريم }م��ا كن الل يِلذر المؤ ِمنِ َ َ ُ ْ َ َ ْ َ ىَّ َ َ َ خْ َ َ ّ َّ َ ب{[آل عمران من اآلية،]179: ما َ أنتم علي ِه حت َي ِم�يز ال َبِيث مِن الطيِ ِ َُ ُ ُ رْ َ ُ َ َّ َ ُ ْ لاَ ُ ْ َ ُ َ َ َ َّ ُ تكوا أن يقول��وا آمنا وهم يفتنون 2 انلاس أن ي }أح ِس��ب َ ْ ْ َ َ َ ْ َ َ َّ هَّ ُ ذَّ َ َ َ ُ يَ ْ َ َولَ َق ْد َف َت َّنا ذَّال َ ِين صدقوا َولَعل َم َّن ِين مِن قبلِ ِهم فليعلمن الل ال ْ اَ َ الكذِبِني{[العنكبوت.]3-2 : 72
اهلل ال يقبل بالتضليل ،بالدجل ،بالتزييف ،وأن ال يكون هناك ما يميز ،ما
يفرز ،ما يبين ،ما يكشف ،ما يجلّي الناس ،يجلّي الحقائق ،يجلّي املسارات، واضحا ،هذه من حكمة اهلل ،ومن عدله ،ومن عزته، ً حتى يكون كل ش�يء
ال يترك األمور بالش�كل الذي يكون الناس مخبوصين فيأتي بعض الناس
(مخبوص ومشوش) يقول[ :يا أخي ،ما عاد درينا وين هو الحق ،اهلل ينصر الحق ،و و و| ،]،ال| ،اإلسلام أرقى من هذا ،طريق الهداية اإللهية أعظم «جل شأنه» الذي هو نور الساموات واألرض ال يمكن أن يترك وأسمى ،اهلل َّ
عباده الذين ينتمون إلى دينه في حير ٍة من أمرهم ،في حالة التباس ،في حالة
تش�ويش ،في حالة اضطراب ،ما هناك نور ،ما هناك معالم ،ما هناك أعالم، ما هناك حقائق ،حالة ملتبس�ة ،ما الذي أس�مى اهلل به كتابه القرآن الكريم؟
َ ُ َ َ َ َ َ ذَّ َ َّ َ ْ ُ ْ َ َ لَىَ َ ْ ون ل ِلْ َعالَم َ ني ك ل ه د �� ب يِ ِ الفرق�ان }تبارك الِي نزل الفرقان ع ع ِ ِ َ ً ن ِذيرا{[الفرق�ان :اآلي�ة ،]1ما الذي أس�مى به حتى ح�وادث تاريخية ،مثل :يوم
بدر؟ (يوم الفرقان).
القرآن الكريم هو نور ،اإلسالم في قرآنه ،وفيام قدَّ مه نبيه ورسوله خاتم
األنبياء وسيد الرسل محمد (صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم) قدَّ م لألمة ما يبيِّن
له�ا ،ما ينوِّ ر لها ،ما يكش�ف لها معال�م الطريق إلى الجن�ة ،إلى مرضاة اهلل (سبحانه وتعالى) ،إلى الحق ،قدَّ م من البصائر والدالئل ما يوضح ،ما يبيِّن ،ما
يجلِّي ،ما يضمن لإلنس�ان السير في الصراط املستقيم ،هذا هو اهلل (سبحانه
وتعالى) في نوره ،في هديه ،في رحمته ،في عدله ،في عزته ،في حكمته.
الذين يتهمون املنهج اإلسلامي بالتش�ويش واالضط�راب وااللتباس، 73
وليس فيه ما يميز ،وال يبيِّن ،واألحداث كذلك ،والواقع كذلك ،وأن األمة
ه�ذه تركت في هذه الحال�ة من العمى والتخبط؛ ه�م يتهمون اهلل ،يتهمون اهلل ف�ي حكمته ،يتهمونه في عدل�ه ،يتهمونه في رحمته ،يتهمونه في علمه؛
ألنهم يرون أنه تركنا هكذا ،نحن عبيده املساكين ،املستضعفين ،املبهذلين،
[م�ا ن�دري ما هو الحق ،وأين نس�ير ،وما هي املس�ألة ،وأي�ن هو الصح من الغل�ط ،وكل األم�ور ملتبس�ة ،ولم نعد ن�دري ما هو الص�ح والغلط ،ومن ه�و املؤمن ومن هو املنافق ،]...ال |ال| ،ليس�ت املس�ألة كذل�ك أبدً ا ،إنام
ه�ذا نتاج الجهل ،أو -أحيانً�ا -القيود املكبلة م�ن العصبية والعمى تجعل اإلنسان على هذا النحو.
علي (عليه السالم) يقدم هو في حبه ،في نهجه ،في شخصيته ،في اإلمام ٌ
منهجه ،في ما جس�ده من قيم هذا الدين ،ومبادئ هذا الدين ،وأخالق هذا
الدي�ن ،وتعاليم ه�ذا الدين ،هو يمثِّل االمتداد األصيل لإلسلام ،النموذج
األصي�ل لإلسلام ،وحرك�ة النفاق هي حرك�ة تزييف ،تعمد إل�ى أن تأخذ من اإلسلام م�ا يالئمها ،وما يالئ�م الطاغوت ،وترمي ع�رض الحائط من اإلسلام ،من تعاليمه ،من مبادئه ،من قيمه ،ما ال يناس�ب الطغاة والظاملين
واملس�تكبرين ،وما ال يناس�ب الطاغوت واالس�تكبار ،وتتأقل�م بام بقي لها من طقوس وشكليات فُرِّ غت وفصلت عن الجوانب األخرى من اإلسالم
والدي�ن ،تتلاءم مع الطاغ�وت ،وتولف وتقدم ش�كلاً معينًا عن اإلسلام
ينس�جم ،يعني :مسلم ينسجم كل االنس�جام مع إسرائيل ،مع أمريكا ،وقد يك�ون حتى إمامً�ا للحرم املك�ي ،ويذهب لي�زور أمريكا ،ويب�ارك قيادتها 74
للبش�رية ،ويَع َتبِر ذلك يعني في س�ياق التوفيق اإللهي الكبير للبشر [ما شاء
اهلل العظي�م! أي :يك�ون قائدهم مث�ل :ترامب ،ومثل أولئ�ك األمريكيين، وأولئك الطغاة!!].
�أ�صالة الإمام علي تك�شف حركة النفاق فحرك�ة النف�اق هذه م�ا هو أعظم ما يكش�فها؟ م�ا هي العالم�ة الفارقة
الس�هلة القريبة التناول؟ اإلمام علي (عليه الس�ل�ام) ،ال يستطيع املنافقون أن ينسجموا أبدً ا مع اإلمام علي (عليه السالم) ،هم ال يحبونه ،يبغضونه ،املنافق
ال ينسجم مع اإلمام علي (عليه السالم) ،قد يستطيع منافق معين -وقد يكون
حتى بطبيعة مس�اره في هذه الحياة -يقدِّ م نفس�ه على أن�ه متدين ،قد يطيل
لحيته ،عملية س�هلة جدًّ ا عملية إطالة اللحية ،ما تحتاج إلى مشكلة كبيرة، خاص�ة بعضهم كثيف الش�عر ،ق�د يتخذ إج�راءات معينة ،ق�د يتقن عملية
بعضا من األمور ،وق�د يظهر عابدً ا متنس�كً ا ،وقد يجيد الس�واك ،قد يتق�ن ً
تلاوة الق�رآن ...ش�كليات كثيرة ،قد يك�ون خطيبًا في مس�جد ،قد يكون إمامًا في مسجد ،قد يكون تحت اسم داعية ،ويتقن فن الخطابة ،ويكاد أن
يحط�م مكبرات الصوت ف�ي املنابر ،ووو...الخ .ولكن س�يصل عند علي
بن أبي طالب ويواجه مش�كلة ،يواجه مش�كلة ،خلاص ،ما يتحمل يعني، هذه أصالة اإلمام علي (عليه السالم) ،أصالة اإلمام علي التي ال تقبل النفاق وال املنافقي�ن ،أصالة عجيبة جدًّ ا وآية ،هذه آي�ة ،ما يتحمل حتى لو جامل، مجامل�ة يش�وبها الكثير من التنقص ،يعني إذا أضط�ر اضطرارً ا ،يقول لك: 75
[اإلم�ام علي صحيح رجل جيِّد ،لكن ولكن ولكن ولكن ولكن ،وانتبهوا
من حبه؛ ألنه خطير جدًّ ا] ،يجعل من محبة اإلمام علي (عليه السالم) مسألة خطيرة للغاية ،ومحفوفة باملحاذير[ ،ويجب أن تنتبه ،وال تزيّد ،وال تسوي،
وال ،]...وقائم�ة طويلة م�ن املحاذير التي ال يقدمها عن�د الحديث عن أي شخص آخر ،يحتاج يطلع معه مشكلة مع اإلمام علي ،مع أن حركة النفاق افتضح�ت في س�عيها الدؤوب لتغيي�ب اإلمام علي من املش�هد نهائيًا ،هي
تسعى لذلك ،ولكنها فشلت عبر التاريخ بكله ،وإال فهي تسعى ،وكلام كان هن�اك جه�ة في األمة أكثر نفاقًا وأس�وء نفاقًا كانت أش�د س�لبي ًة في موقفها من اإلمام علي (عليه الس�ل�ام) ،أش�د س�لبية وأكثر س�لبية ،وتبدو في جفائها
وتنكرها لإلمام علي (عليه السالم) بشكلٍ أكبر وأوضح. ُّ
(((
“علي مع القرآن والقرآن مع علي” ٌ
(علي حديث آخر قاله رس�ول اهلل (صلى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) وهوٌ : م���ع الق���رآن والقرآن مع عل���ي) حديث يؤك�د اقتران اإلم�ام علي (عليه
الس�ل�ام) بالقرآن في مواقفه ،في توجهاته ،في مس�ار حياته ،في معارفه ،فيام يقدمه لإلسلام وعن اإلسالم ،فهو مقترن بالقرآن ،مواقفه مواقف القرآن،
معارف�ه معارف القرآن ،سياس�ته سياس�ة القرآن ،منهجه ف�ي الحياة قرآني،
تطلع إلى اإلمام (عليه السالم) من هذا املوقع (علي مع الحق والحق مع علي). ((( من محاضرة السيد عبد امللك في ذكرى استشهاد اإلمام علي (عليه السالم) لعام 1439هـ.
76
(يحب اهلل ور�سوله ويحبه اهلل ور�سوله) وهك�ذا نجد هناك الكثير والكثير م�ن النصوص حديث الراية في قصة
خيبر عندما قال النبي (صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم)( :ألعطين الراية غداً ال يحبه اهلل ورسوله ويحب اهلل ورسوله كرار غير فرار يفتح رج ً اهلل على يديه). الحظوا هذا النص كيف يتحدث عن اإلمام علي (عليه السالم) يحبه اهلل
ورسوله ،كيف ال نحب هذا الرجل العظيم الذي حظي باملحبة املؤكدة التي أخبر عنها الرس�ول من اهلل ومن رس�وله؟! كيف ال نحبه؟! وكيف ال ننش�د إلى شخصية بهذه العظمة ،بهذا املستوى ،بهذا القدر الكبير واملنزلة الرفيعة
العالية؟! وملاذا سيحبه اهلل ورسوله إال لكامله اإليامني.
علي وعل�ى نيته ،على ه�ذا الن�ص يقطع لن�ا قطع ًا عل�ى باطن وس�ريرة ٌ
س�ريرته وعالنيته ،رجل إيامنه محقق يش�هد له اهلل ويش�هد له رسوله بكامل إيامنه.
هذه املحبة هي وس�ام ش�رف وهي في نفس الوقت هي دليل قاطع على
كامل�ه اإليامن�ي على عظمته الرفيعة عند اهلل (س���بحانه وتعال���ى) ،منزلته العالية
عند اهلل (سبحانه وتعالى) ومرتبته اإليامنية العالية ،ويحب اهلل ورسوله ،كذلك
نفس الشيء شهادة له بمحبته للّه ورسوله بكل ما يلحق بها من كامل إيامني ومواصفات إيامنية.
ثم نجد الكثير والكثير من النصوص هذه بعض منها هناك كتب بأكملها 77
حت�ى في التراث السّ �ني هن�اك كتب بأكملها ،اس�مها كت�ب املناقب ،كتب
الفضائل ،مقام علي (عليه الس�ل�ام) في األمة قال عنه ابن عباس رضوان اهلل وعلي أميرها وش�ريفها) هو ٌ عليه قال( :ما من آية فيها ثناء على املؤمنين إال
صالح املؤمنين ،هو أكمل املؤمنين ،كل ثناء على املؤمنين ينطبق عليه.
(((
جانب من حياته الإيمانية الجهادية إذا أتي�ت إلى الق�رآن الكريم لتعرف جوانب اإليمان ومجاالت اإليامن
تج�د أن من أهم ما ف�ي اإليامن من أخالق وأعامل ومس�ؤوليات ويرتبط به
أش�ياء كثيرة هو الجهاد في سبيل اهلل ،وهو أيض ًا فضيلة عظيمة وشرف كبير ومنزلة عالية عند اهلل (س���بحانه وتعال���ى) ،وفيه أيض ًا الداللة التي تدل بوضوح على حقيقة اإليامن فنجد اهلل (سبحانه وتعالى) في القرآن الكريم يتحدث عن
الجهاد في س�بيله كصفة إيامنية من أهم الصف�ات اإليامنية ،ونجده يتحدث
َ لَىَ َ َ َّ َ ُ ْ ُ َ ع الْ َقا ِع ِدينَ عن�ه كمنزلة رفيعة وعالية }وفض��ل اهلل المجاهِ ِدين َ اَ ُ َ أَ ْج ًرا َعظ ً ��رةً َو َر مْحَ ًة َوكن اهلل غفوراً يم��ا َ 95د َر َجات م ِْن ُه َو َم ْغ ِف َ ِ ٍ َر ً حيما( {96النساء). ِ
اإلم�ام عل�ي (عليه الس�ل�ام) كان جه�اده في س�بيل اهلل وإس�هامه الكبير
جد ًا في مواجهة أعداء اإلسلام وفي الدفاع عن اإلسلام وعن األمة وفي اإلس�هام الكبير في إقامة هذا الدين كان متميز ًا نس�تطيع القول ما بعد النبي
((( ذكرى استشهاد اإلمام علي )(عليه السالم)› للسيد عبد امللك (حفظه اهلل) لعام 1438هـ.
78
(صل���ى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) ،ليس ألحد م�ن أتباعه وال من أصحابه وال
من أنصاره ما هو لإلمام علي (عليه السالم) في هذا الجانب.
فكان جهاده وإس�هاماته ومواقفه وعناؤه الكبير في سبيل اهلل واستبساله
وفدائيته العالية جد ًا في س�بيل اهلل (س���بحانه وتعالى) وطول مس�يرة اإلسلام
وف�ي كل املش�اهد واملقام�ات واملواقف الكبيرة في اإلسلام كان كل ذلك متميز ًا بين أتباع الرسول أكثر من أي شخص آخر بين املسلمين.
وه�ذا أيض� ًا نتاج لتلك التربية م�ن النبي(صلى اهلل عليه وعلى آله وس���لم)،
َضعْ عبثا أب�داً ،جهودٌ أثمرت أيَّام ثمرة َض�عْ جهود النبي في تربيته ،لم ت ِ ل�م ت ِ عظيمة ،وأثمرت أيَّام أثر ًا عظيامً ،وكانت في نفس الوقت شاهد ًا على عظمة
اإلسالم نفسه ،ألن علي ًا هو صنيعة اإلسالم ،أثر اإلسالم ،كل ما فيه من أثر
هو أثر أخالق اإلسالم ،لقيم اإلسالم ملعارف اإلسالم.
وبجهد وبس�عي وبتربية من النبي (صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم) ،فاملعلم
واملربي هو النبي ،والذي رباه به وعلمه به وأنشأه عليه هي أخالق اإلسالم، معارف اإلسلام ،قيم اإلسالم ،فكان شاهد ًا للنبي وشاهد ًا لإلسالم وعلى عظمة هذا اإلسلام ،وتجل�ت فيه قيم هذا الدين وأخلاق هذا الدين على
أرقى مس�توى ،هناك مس�لمون عظماء ،هناك أيضا من الصحاب�ة من برزوا عظماء ف�ي إيامنه�م ف�ي عطائه�م في جهاده�م ،ف�ي صبرهم ،ولك�ن ليس
بمس�توى ما كان عليه اإلمام علي (عليه الس�ل�ام) ،وليس بمس�توى ما وصل
إليه اإلمام علي (عليه السالم).
79
والنبي(صل���ى اهلل علي���ه وعلى آل���ه وس���لم) أواله اهتامم ًا خاص� ًا وفي نفس
الوقت كانت قابليته أعلى من قابلية غيره ،لم يمتلك أحد من املس�لمين من قابلية بقدر ما امتلك هو من قابلية عالية في نفسه وفي مداركه وفي مشاعره وفي إحساس�ه وفي وجدانه وفي قدراته وفي طاقته إلى آخره ،فكان جهاده
ومس�يرته الجهادية على نحو عظيم ،ولذلك تستطيع الحديث عن الجانب
الجهادي بالنسبة لإلمام علي (عليه السالم) من جوانب متعددة.
أوالً :ه�و بط�ل اإلسلام ،بي�ن تالم�ذة الرس�ول وبي�ن أتب�اع الرس�ول
بين املس�لمين -ما من أح ٍد يصل إلى مس�توى اإلمام علي (عليه الس�ل�ام)ف�ي بطولته في ثباته في ش�جاعته في قوته املعنوي�ة ،كان يمتلك قو ًة معنوي ًة
عالية ،وصنعها فيه اإلسلام والرسول ،ووهبه اهلل (سبحانه وتعالى) هذه الهبة العظيمة والعالية ،فاإلمام علي (عليه الس�ل�ام) كان يمتلك طاقة معنوية وقوة
معنوية عالية جداً ،ألنها ليس�ت فقط قو ًة غريزية ،البعض يمتلكون شجاع ًة
غريزية .
أكيد يتوفر لإلمام علي (عليه الس�ل�ام) الشجاعة الغريزية ولكن قد تكون
أنت قمت القوة الغريزية فيك والفطرة الربانية قد تكون بمستوى معين ،إنْ َ بتنميته�ا وتنش�ئتها والرف�ع من مس�تواها واإلعلاء من ش�أنها وكان لديك
القابلية نمت وتعاظمت وتجذرت وتمكنت وأثمرت.
وإن أنت لم تنم هذه الفطرة ولم تسع إلى التفاعل معها تبقى في مستوى
ال محدود وأحيان ًا اإلنس�ان قد يضرب فطر ًة معينة في نفس�ه قد يضربها أص ً 80
ف�كل منا يمنحه اهلل في فطرته أش�ياء ٌ فلا يس�تفيد منها وت�كاد أن تنعدم فيه عظيم�ة ،أش�ياء مهم�ة ،أش�ياء ذات قيم�ة ،وكل امللكات الالزمة لإلنس�ان الت�ي يحتاج إليها ف�ي حياته للصالح وللخير وللتقوى وللرش�د ولالرتقاء
كل منا يمنحه اهلل في فطرته ذلك. اإلنساني واألخالقي ٌ
لك�ن إذا كان إل�ى جانب هذه الفطرة تنمية وتنش�ئة وبن�اء وارتقاء نمت
وتعاظم�ت وأثم�رت ،وهذا هو ما كان بالنس�بة لإلمام علي (عليه الس�ل�ام)، إلى جانب ذلك كان له األثر اإليامني إلى جانب الفطرة التي فطره اهلل عليها
ونم�ت وتعاظم�ت بفع�ل التربية ،بفع�ل التنش�ئة اإليامنية املبارك�ة والتنمية األخالقي�ة والتنمي�ة اإلنس�انية والبيئ�ة الراقية الت�ي تربى فيه�ا ،الى جانب
ذلك األثر اإليامني؛ ولذلك قدم اهلل (س���بحانه وتعالى) هذا االستبس�ال ،وهذه الفدائية العالية ،وهذه الطاقة املعنوية العالية -في سبيل اهلل -قدمها اهلل في
اس َم ْن ي َ رْشي َن ْف َس ُ الق�رآن تقدم� ًة إيامنية قال اهلل تعالىَ } :وم َِن َّ ��ه انل ِ ِ َ ُ َُ ٌ ْ ْ َ َْ َ َ ات اهللِ واهلل رءوف بِال ِعبا ِد{ (البقرة.)207: ابتِغاءَ مرض ِ
يذكر املفس�رون وي�روي ال�رواة أن أول وأعظم مصاديق ه�ذه اآلية من
أبناء اإلسالم من أتباع الرسول هو اإلمام علي (عليه السالم) ،أول مصاديقها م�ن أبن�اء األمة ومن أتباع النبي ه�و اإلمام علي ونعني بأن�ه أول مصاديقها
اس َم ْن ي َ رْشي َن ْف َس ُ أن اآلية ال تخصه وهي ال تعنيه فقط } َوم َِن َّ ��ه انل ِ ِ ْ َ َْ َ ات اهللِ{ هي تش�مل كل من يبيع نفس�ه م�ن اهلل ويتجه هذا ابتِغاءَ مرض ِ التوجه (ابتغاء مرضاة اهلل) من اتجاه صحيح وفي اتجاه صحيح وس�ليم ال
تشوبه شوائب باطلة وال محبطة.
81
ولكن أرقى من فعل ذلك أعلى ش�أن ًا من ذلك أكمل إيامن ًا من فعل ذلك
أصدق من فعل ذلك من أتباع رس�ول اهلل من األمة اإلسلامية ،وأولهم في املرتبة األولى ،األول من أبناء اإلسالم من أتباع النبي هو علي بن ابي طالب
(عليه السالم) .
فأنت تتطلع إليه كجندي من جنود اإلسالم إذا أنت تجاهد في سبيل اهلل
تتطلع إلى هذا الجندي الذي سبقك من جنود النبي من جنود اإلسالم وهو عل�ي بن أبي طال�ب ،كيف كان على هذا النحو ،وكيف كان الس�ابق أيضاً،
ال وسبق ًا في كل بق علي في اإلسالم كان سبق ًا في التصديق بالنبي رسو ً وس ُ َ فضائل اإلسلام ،في كل مجاالت العمل اإلسالمي العظيمة واملهمة ،كان
س�باق ًا صادق ًا س�باق ًا يحمل روحية الس�بق في كل مجاالت اإلسالم ،حينام
يدعو النبي إلى شيء ويأمر بشيء ويحث على شيء فهو من يسبق إلى فعل ذلك.
وس�جلت الس�ير لإلمام علي (عليه الس�ل�ام) من املواقف ّ س�جل التاريخ ّ
ُس�جل لغيره، البطولي�ة والفدائية ومواقف االستبس�ال في س�بيل اهلل مالم ي َّ حتى برز اإلمام علي (عليه الس�ل�ام) عُ رف بين األمة اإلسالمية وبين البشرية كافة بأنه بطل اإلسالم ،عظيم اإلسالم في جهاده ،عظيم أتباع النبي ،عظيم
رج�ال النبي ،عظيم جن�وده ،بطل جنوده ،صفوة جن�وده ،ونتحدث بإيجا ٍز ج�د ًا يعن�ي ألن املعول ألن يس�تفيد الناس م�ن التاريخ ومن الس�ير في هذا
الشأن ومن التراث اإلسالمي فيام ورد.
82
فدائي في الإ�سالم علي (عليه ال�سالم) �أول ٌ ٍ من املواقف التي سجلها التاريخ وسجلتها السير ليلة املبيت على فراش
النب�ي (صل���ى اهلل علي���ه وعلى آله وس���لم) بعد أن تآم�ر األعداء عل�ى قتله ألنه
بع�د أن أت�ى البعض م�ن األوس والخزرج من األنصار إلى مكة وأس�لموا وع�زم النبي على الهجرة فتفاقم القلق لدى املش�ركين والكافرين في مكة، ال واتخذوا قرار ًا بقتل النبي (صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم) والتخلص منه قت ً
وأذن اهلل له بالهجرة.
فالليلة التي تآمروا فيها على قتل النبي (صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم) وفق
ال شرس� ًا خطة أعدت س�لف ًا جمعوا فيها من كل بطن من بطون قريش مقات ً فتاك ًا يحمل سيف ًا حاد ًا بغية أن يقتلوا النبي بضربة واحدة بسيوفهم ،فحسب
قولهم يتفرق دمه في القبائل فيعجز بنو هاش�م عن الثأر له ،ففي تلك الليلة بع�د أن أع�دوا خطتهم ه�ذه وجه�زوا لتنفيذها وأرس�لوا أولئ�ك املقاتلين
للتنفيذ .جبريل (عليه الس�ل�ام) بوحي من اهلل أخبر النبي (صلى اهلل عليه وعلى
آله وسلم) مسبقاً ،وأعطاه اإلذن واألمر من اهلل بالهجرة ولكن لنجاح عملية
الهجرة والخروج من منزل النبي (صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم) سيام واملكان
الذي كان يبيت فيه النبي كان مكان ًا مكشوف ًا يتضح ما إذا كان النبي موجود ًا أو غائب� ًا ـ كان الب�د م�ن عملية تمويه حت�ى يتوهم أولئ�ك أن النبي ال زال موجود ًا بينام يتمكن هو بالخروج والهجرة.
فالنبي (صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم) عندما أخبر اإلمام عليًا (عليه السالم) 83
بذلك كان جاهزً ا الفتداء النبي وقال نعم الكرامة وفرح بذلك واستبشر جد ًا
أنه سيحظى بهذه املهمة الفدائية التي يبيت فيها في فراش النبي حتى يتوهم أولئ�ك األع�داء أن النبي ال يزال في فراش�ه ،وأنه يبيت ف�ي منزله فينتظروا
حت�ى اللحظة التي حددوها لقتله فينقضوا علي�ه لقتله ،وحينها يكون النبي
قد خرج ،وبات علي (عليه الس�ل�ام) في فراش النبي (صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم).
وعندم�ا هجم أولئك مع طل�وع الفجر تفاجأوا ،وث�ار فيهم اإلمام علي
(علي���ه الس�ل�ام) تفاجأوا بأن املوجود ه�و علي بن ابي طالب أم�ا النبي (صلى اهلل علي���ه وعل���ى آله وس���لم) فلم يكن موج�وداً ،وكان قد خرج ،قصة ش�هيرة حديث ٌ ف�ي التاريخ وفي الس�ير والحديث عنها وما قبله�ا وأثناءها وبعدها
واسع.
ه�ذه الليلة ُس�جلت في التاريخ وورد عن النبي (صل���ى اهلل عليه وعلى آله
وس���لم) بش�أنها مواق�ف أن اهلل باهى بعلي بع�ض مالئكته ،كي�ف بقي تلك موقف فدائيٍ يجهز نفسه للشهادة ،ويعد روحه للشهادة ،وحاضر ٍ الليلة في
للش�هادة في س�بيل اهلل ،في تلك اللحظة وفي ذلك املوقف ،ونزل قول اهلل
َ ْ َ رْ َْ َ ُ ْ َ َْ َ (س���بحانه وتعال���ى)َ } :وم َِن َّ ات انل ِ شي نفس��ه ابتِغاءَ مرض ِ اس من ي ِ اهللِ{(البق�رة )207:ف�كان عل�ي أول املؤمنين ،أول جن�ود النبي من طبّق ذلك فعليًا مع النبي (صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم).
84
علي (عليه ال�سالم) في بدر ٌ نأت�ي إل�ى مقامات أخ�رى كذل�ك باختصار ش�ديد ،يوم ب�در عندما
ُ َ ذَّ َ َّ َ َ َ رْ َ ْ ُ ْ َ � ن ب ك د ي أ ِي ال ق�ال اهلل }هو ْص�ه ِ وبِالمؤ ِمنِني{ (األنف�ال )62:وكان ِ ِ
علي أعظ�م ه�ؤالء املؤمنين أثر ًا يوم ب�در وعطا ًء وجهد ًا كان ه�و اإلمام ٌ
(عليه الس�ل�ام) هو تميز بذلك وعرف يوم بدر ببطولته وثباته واستبس�اله، استبساله العجيب في سبيل اهلل ،وجديته العالية في القتال وأدائه املتميز،
عرف بذلك كله ،وكان علي (عليه الس�ل�ام) حام�ل الراية راية النبي (صلى
اهلل علي���ه وعلى آله وس���لم) ،راية اإلسلام ف�ي يوم بدر وفي مش�اهد النبي كله�ا الت�ي حضرها كان هو حام�ل الراي�ة وكان دائ ًام وفي الع�ادة يوكل
حمل الراية إلى من يعرف بثباته واستبس�اله وشجاعته وتامسكه وإقدامه
وصب�ره ،فكان اإلمام علي (عليه الس�ل�ام) هو حام�ل راية النبي (صلى اهلل
عليه وعلى آله وسلم).
ف�ي يوم ب�در كان أول ما حدث في املعركة أن برز من جانب املش�ركين
ثالثة مقاتلين هم :عتبة بن ربيعة وأخوه ش�يبة وولده الوليد ،كبار املشركين
ومن أبطالهم ،أبطال الشرك والكفر ،وتقدموا للمبارزة فقال النبي (صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم) :قم يا علي ،قم يا حمزة ،وقم يا عبيدة بن الحارث ،فقام الثالثة ودخلوا في أول مبارزة في املعركة ونتج عنها مقتل الذين خرجوا من
ْ َ َ املش�ركين ،ونزل قول اهلل (س���بحانه وتعالى)َ } :ه َذان َخ ْص َ ان اختص ُموا م ِ ِ ّ ْ يِف َرب ِ ِه��م{ (الح�ج )19:خصومة في ربهم على اإلسلام وعلى الحق وعلى 85
الدين اإلسلامي ...إلى آخر اآليات بام فيه�ا من ثناء على املؤمنين ،بام فيها
أيضا من كالم ووعيد ألعداء اهلل الكافرين. ً
ف�ي يوم بدر من أَعج�ب ما نقله املؤرخون أن علي ًا (عليه الس�ل�ام) كان له
أكب�ر إس�هام مع أنها كان�ت أول مع�ارك يخوضها لكن كان له أكبر إس�هام ف�ي القت�ال لدرج�ة أن البعض من املؤرخي�ن وأصحاب الس�ير أحصوا في
إحصائية للقتلى من املشركين أن علي ًا قتل قُرابة النصف من قتلى املشركين،
أي :نصف املعركة ُحسِ �بَ ْت عليه ،قُرابة النصف من قتلى املش�ركين كان هو م�ن قتلهم ،وكان معروفًا عنه أنه قت�ل صناديد األعداء وأبطالهم ومقاتليهم
األش�داء ب�ل إن بع�ض مقاتليه�م األش�داء ،عندم�ا تق�دم كان البعض من املسلمين يتهرب من مواجهته فيكون علي من يتقدم ويواجه.
في �أُحُ د :ال فتى �إال علي وال �سيف �إال ذو الفقار أم�ا في يوم أح�د وما أدراك ما ي�وم أحد عندما انهزم املس�لمون وهرب
ُ ْ َ ْ َ تْ َ ىَ جْ َ ْ َ ِين تَ َول َّ ْ الكثير منهم قال اهلل تعالى }إ َّن ذَّال َ ال م و ي م ِنك م ا و ان ع م ال ق ِ ِ َّ َ ْ زَ َ َّ ُ ُ َّ ْ َ ُ َ ْ َ َ َ ُ ض ما كس��بوا{ (آل عم�ران )155:وكذلك إِنما اس�َت�لهم الشيطان بِبع ِ ْ ُ ْ ُ َ َ لاَ َ ْ ُ َ لَىَ َ َ َ َّ ُ ُ َ ْ ُ ُْ ق�ال {إِذ تص ِع��دون و تلوون ع أح ٍد والرس��ول يدعوكم يِف ُ ْ َ ُ ْ أخراكم{(آل عمران .. )153:اإلمام علي (عليه الس�ل�ام) كان له موقف متميز ج�دً ا بثبات�ه مع النبي (صل���ى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) يوم أح�د ،وفي صبره
ومرابطت�ه واستبس�اله العجيب جد ًا ما َقبْ�ل الفرار و َقبْ�ل الهزيمة وهروب األكثر من املسلمين.
86
أيض� ًا بع�د أن هربوا ،قب�ل الفرار منهم وم�ا بعد الفرار ،قب�ل الفرار كان
ه�و قاتل أصحاب الرايات من املش�ركين فقتل معظمه�م ومواقفه في ذلك مس�جلة ،قت�ل فالنً�ا وفالنًا وفالنً�ا .يذكرون باألسماء من األبط�ال الذين يعتمد عليهم األعداء في بطولتهم ،في دورهم القتالي ،في ش�جاعتهم ،في إقدامهم ..ثم ما بعد الفرار من جانب املسلمين كان صموده كذلك صمودًا
أسطوريًا وعجيبًا جدً ا ،صمودًا ال نظير له.
ثبت مع النبي (صلى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) ،واستبس�ل هو ،كسر جفن
س�يفه ألنه في البداية ش�اعت شائعة عن استشهاد النبي (صلى اهلل عليه وعلى
آله وس���لم) وهرب الكثير من املسلمين فكس�ر اإلمام علي جفن سيفه وكان
ه�ذا صني�ع من يريد أن يستش�هد وليس في أمل�ه أن يعيد س�يفه إلى جفنه،
يريد أن يقاتل حتى يستشهد وحمل حملة على األعداء حتى كشفهم فوجد ومغمى علي�ه فدافع عنه في ً جريح�ا ً النب�ي (صل���ى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) استبس�ال حت�ى عاد النب�ي (صلى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) وخ�رج من حالة
اإلغامء وأفاق.
واستبس�ل اإلم�ام عل�ي (عليه الس�ل�ام) مع قل�ة قليلة جدً ا م�ن الصابرين
اختالف في الروايات في ذلك . ٍ والثابتين يحصون بالعدد اليسير جدً ا على م�ن الثاب�ت واملجمع عليه ف�ي التاريخ ثبات اإلمام علي (عليه الس�ل�ام)،
ل�م ينه�زم فيمن انهزموا ،واستبس�ل استبس�الاً عجيبًا جدً ا ومنح�ه اهلل عونًا
عجيبًا جدً ا ،وهتفت له املالئكة وهو يستبسل ذلك االستبسال في ما أصبح معروفًا ومنقولاً لدى األمة (ال سيف إال ذو الفقار وال فتى إال علي). 87
فيما ي�روى من أحداث أحد م�ا يروى عن النبي (صل���ى اهلل عليه وعلى آله
وس���لم) أنه في أثناء املعرك�ة وهي محتدمةٌ جدً ا ما بعد هزيمة املس�لمين وما
بع�د بقاء النب�ي بقلة قليلة م�ن الثابتين وأبرز موقف كان ه�و موقف اإلمام علي (عليه الس�ل�ام) بعد استشهاد حمزة واستشهاد من استشهدوا من أبطال املسلمين قرابة السبعين شهيداً.
كهدف ٍ كان األع�داء يحرص�ون -في تلك اللحظات -عل�ى قتل النبي
رئيس�يٍ لهم ،فكانت كل آونة تتقدم كتيبة لهذا الهدف :لالقتحام والس�عي جريحا ً إل�ى قت�ل النب�ي مباش�رة (صلى اهلل علي���ه وعلى آله وس���لم) كان النب�ي
ومثخنًا بجراحه وكان على جانبه جبريل (عليه السالم) والبعض من املالئكة
حاض�رون ،ف�كان النبي يقول لإلمام علي (عليه الس�ل�ام) ي�ا علي ويأمره أن يتج�ه إلى تل�ك الكتيبة ،ويوجهه أن يواجه تلك الكتيب�ة ،،كلام أقبلت كتيبة
أمر عليًا بالتصدي لها.
علي (عليه الس�ل�ام) يتج�ه إلى كل كتيبة تس�عى لالقتحام على النبي كان ٌ
وقتل�ه فيقت�ل فارس�ها وقائده�ا وبطله�ا وأه�م الفرس�ان فيها فس�رعان ما تتراجع ،تأتي كتيبة أخرى يقتل قائدها س�رعان م�ا تتراجع ،تأتي كتيبة ثالثة وهك�ذا ...ال ينف�ك يتصدى لهذه الكتيب�ة ثم يتحول إلى تل�ك الكتيبة في
قتال واستبس�ال بش�كل عجيب .فقال جبريل (عليه الس�ل�ام)( :إن هذه لهي املواساة ،فقال النبي( :إنه مني وأنا منه) ،فقال جبريل :وأنا منكام).
هذا شرف ال يفوقه شرف أبدً ا ،فضيلة هذه ومنقبة عظيمة جدً ا تدل على
عالقة اإلمام علي (عليه السالم) بالنبي (صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم). 88
علي يوم الأحزاب ٌ في يوم األحزاب ،هذا اليوم الذي صور اهلل (سبحانه وتعالى) حال املسلمين
ْ َ ُ ُ ّ َْ ُ ْ َ ْ َْ ََ ُ ْ ْ َ َ ْ فيه بقوله} :إِذ جاؤوكم مِن فوق ِكم ومِن أسفل مِنكم ِإَوذ زاغت لأْ َ ْ َ ُ َ َ َ َ ْ ُ ُ ُ حْ َ َ َ َ َ ُ ُّ َ ُّ ُ َ ُ َ َ جر وتظنون بِاهللِ الظنونا هنال ِك ا بصار وبلغ ِ ت القلوب النا ِ ْ ْ ُ ً ً َ ُْ َ ُْ ْ ُ َ ُ ل المؤمِنون َوزل ِزلوا ِزل َزاال ش�� ِديدا{ (األح�زاب )10 - 11خرج بطل ابت يِ قري�ش عمرو بن عبد ود العامري متحدي ًا للمس�لمين فل�م يبرز له أحد غير
اإلمام علي (عليه السالم) وفي ذلك اليوم قال رسول اهلل (صلى اهلل عليه وعلى
آله وس���لم)( :ب���رز اإليمان كله للش���رك كله) برز اإلم�ام علي لرأس الش�رك هذا فقتل�ه فكانت بداية الهزيم�ة املدوية للمش�ركين الذين تحزبوا
وتحالفوا حتى مع اليهود للقضاء نهائي ًا على اإلسالم واملسلمين.
علي يوم خيبر وف�ي خيبر وبعد أن هُ زِم املس�لمون مرتين ف�ي مواجهة اليهود في غياب
عل�ي ال�ذي كان مصاب ًا بالرمد في عينيه فال يبصر موضع قدميه ،وعند ذلك
ال ق�ال النبي (صل���ى اهلل عليه وعلى آله وس���لم)( :ألعطي���ن الراية غدًا رج ً يحب اهلل ورس���وله ويحبه اهلل ورس���وله ،كرا ٍر غير فرار) كرار غير فرار أي :ال يعرف الفرار كام غيره ممن س�بقوه ،ثم دعا علي ًا وتفل في عينيه
فش�فيتا ،وانطل�ق علي كالب�رق يتقدم املس�لمين فقتل قائده�م مرحب ًا وفتح
حصن خيبر قبل أن يتكامل الناس.
89
ً �شخ�صية متكاملة كان اإلم�ام عل�ي (عليه الس�ل�ام) بقدر ما كان ف�ي دوره الجهادي وإس�هاماته
الكبي�رة في إقامة اإلسلام ،ومن واق�ع إيامنه العظيم ال�ذي يتحرك فيه كان
أيض ًا شخصية إيامنية متكاملة :في جهاده ،شجاعته ،في بطوالته ،في صبره،
في استبساله في سبيل اهلل ،في روحه العالية.
�أعلم الأمة اإلمام علي (عليه الس�ل�ام) كان هو أعلم األمة بع�د نبيها ،هو تلميذ النبي
الذي اس�تفاد منه ما لم يس�تفده غيره ،ومثلام كان النبي (صلى اهلل عليه وعلى
علي على نح ٍو اختصاص كبي� ٍر في املجال التربوي اس�تفاد ٌ ٍ آله وس���لم) على
ََ ََ ُُ ٌ َ ٌَ أكث�ر من غيره والنب�ي بعد أن نزل قول�ه تعال�ى} :وت ِعيها أذن واعِية{
(الحاق�ة )12:ق�ال فيما روي عنه ورواه املس�لمون عنه“ :س�ألت اهلل أن يجعلها
أذنك يا علي” فكان اإلمام علي (عليه السالم) أول مصداق لهذه اآلية ،أول مص�داق وأرقى مصداق من املس�لمين ،من أتباع النبي له�ذه اآلية ،األذن الواعية التي تس�توعب وتسمع ،تتلقف الهدى وتستوعبه وال ينسى؛ لدعاء
النبي له ،لم يكن ينسى ما حفظه وتعلمه من معارف وعلوم ...وإلى آخره. عل�ي كان في مدى اهتاممه في أن يتعلم وأن يس�تفيد إلى درج ٍة واإلم�ام ٌ
عالية ،من قال عن ذلك (عليه السالم)( :ما دخل نومٌ عيني على عهد رسول اهلل حتى علمت ذلك اليوم ما نزل به جبريل (عليه السالم) من حالل أو حرام
أو سنّة أو كتاب أو أمر أو نهي وفي من نزل). 90
الحِ ظوا هذه ،اهتامم كبير جداً( ،أذن واعية) يس�توعب ،يحفظ ،ال ينسى
ما استوعبه ،يمنحه اهلل الحفظ لذلك بدعاء النبي له ،في نفس الوقت عناية،
اهتامم كبير جدً ا ،ال ينام إال وقد استوعب ما نزل في ذلك اليوم من جبريل كتاب أو أم� ٍر أو نهيٍ وفي من ٍ (عليه الس�ل�ام) م�ن حاللٍ أو حرام أو س� ّن ٍة أو
ن�زل ،ارتق�اؤه العملي هو الذي أوصله إلى قول النب�ي( :أنا مدينة العلم ٌ وعلي بابها). ُهل ليكون له الدور المس���تقبلي في األم���ة ،ليكون ناقلاً ُه���ل ،أ ِّ ث���م هو أ ِّ له���ذا العل���م ،ومؤتمنًا على معارف اإلس�ل�ام ،يحتاج إلى م���ن يؤتمن عليها، دجالين، كم يدخل في من ينطق عن اإلسلام من محرفين من كذابين ،من ّ من مفترين ،من قائلين على اهلل ما لم يقل ،ومن مفترين على اإلسالم ومن
مفترين على اإلسالم ما لم يقله.
الي�وم كم تعاني األمة من ش�خصيات كبيرة تقدم نفس�ها على أنها تنطق
علي املؤتمن بعد رسول باسم اإلسالم وليس هو مؤتمن ًا على اإلسالم فكان ٌ
اهلل (صلى اهلل عليه وعلى آله) ،على هذا اإلسلام فيام يقدمه من معارف ،عن
أيضا -يحمله منً هذا اإلسلام وفيام يتخذه من مواقف وق�رارات ،وفيام
أخالقيات ،وفيام يحمله من روحية تعبر عنه وهي أثر هذا اإلسالم.
(((
((( من محاضرة للسيد القائد في ذكرى استشهاد اإلمام علي (عليه السالم) لعام 1438هـ.
91
الإ�سالم الأ�صيل منهج للخال�ص عموم�اً ،نح�ن في هذه املرحل�ة التاريخية التي نعيش�ها كأمة إسلامية
تواجهن�ا الكثي�ر م�ن التحدي�ات ،والكثير من األخط�ار ،ما يح�دث اليوم عندنا في اليمن ،ما يحدث في بقية املناطق في العالم اإلسلامي والس�احة اإلسلامية ،بحاجة إلى أن نلتفت إلى أصالة اإلسالم في منهجه ،في قيمه، ف�ي رم�وزه ،فنرى فيه الن�ور الذي يخلّصنا م�ن كل الظلمات ،والذي ينقذ
أمتن�ا من كل املحن ،والذي يصحح لها واقعها في كل ما فيه من التباس�ات وأخطاء ومشاكل واضطرابات…الخ .معنيون أن نتعاطى بمسؤولية فوق كل
جاهلي بقي في داخل ٌ ش�يء ،أن نترف�ع عن كل العصبيات ،العصبي�ات داءٌ األمة ،وأثّر على األمة كثير ًا حتى في نظرتها إلى القرآن ،إلى الرس�ول ،إلى املفاهيم اإلسلامية ،معنيون اليوم أن نس�عى إلى جمع كلمتنا على التقوى،
على القيم اإلسالمية األصيلة ،إلى معالجة كل املشاكل واملحن التي نعاني منها في واقع أمتنا اإلسالمي.
الأنظمة العميلة والموقف المخزي! اليوم كلنا يرى ،من يشاهد ،من يتابع ،من يحمل االهتامم ملعرفة واقع
األم�ة اإلسلامية ،إلى جانب م�ا في داخل األمة وفي س�احتها الداخلية من ومآس ،نرى ما يحصل بحق املسلمين في بورما من ٍ محن ونكبات وويالت مجازر اإلبادة الجامعية والشاملة ،واالضطهاد الكبير ،وما يمكن أن يحصل
في بلدان أخرى ،وحصل في السابق في مناطق أخرى من العالم ،املسلمون 92
أمة مستهدفة ،أمة مستهدفة بكل ما تعنيه الكلمة ،وال يضمن لهم أن يكونوا
أقوياء في مواجهة كل التحديات واألخطار الرهيبة التي تس�تهدفهم؛ إال أن تجتم�ع كلمتهم على الحق ،وأن يعودوا إلى أصالتهم ،أمة تتوحد ،وتعتصم بحبل اهلل جميعاً ،ثم تتحرك في مواجهة تلك التحديات واألخطار.
الي�وم أين تلك األنظمة التي تقدّ م نفس�ها على أنه�ا هي املؤتمنة على األمة اإلسلامية ،واملمثلة لإلسالم واملس�لمين؟ أين هو النظام السعودي، وأي�ن هو النظام اإلماراتي ،مام يحدث على املس�لمين في بورما؟ أين هم؟ أي�ن مواقفه�م؟ أين دورهم الذي يمن�ع هذا الظلم ،تلك اإلب�ادات الرهيبة بح�ق املس�لمين هن�اك؟ إبادات ش�ملت عش�رات اآلالف من�ذ بدايتها إلى اليوم ،عشرات اآلالف من املسلمين قتلوا هناك بالذبح وبالحرق ،وبوسائل اإلب�ادة الجامعية ،إب�ادات وجرائم تحدث هناك بحامية أمريكية ،وتش�جيع أمريك�ي ،األمريكي يعلن أنه يرفض حتى اللوم للس�لطة املجرمة هناك في بورما التي ترتكب بحق املس�لمين ما ترتكب من جرائم ،يقول األمريكي: [أنا أرفض حتى أن يالم من يرتكبون هذه الجرائم] ،إسرائيل تزود السلطة والبوذيين في بورما بالسلاح إلبادة املس�لمين ،واآلخ�رون يأتون ليرتبطوا بأمري�كا كل االرتب�اط بعد أن ابتع�دوا عن الوالية في مفهومها اإلسلامي الصحي�ح ،أتو ليرتبط�وا بالوالية لألمريك�ي؛ فيفتحوا له املج�ال للتدخل ف�ي كل ش�ؤون أمتنا بال اس�تثناء ،الي�وم األمريكي يتدخل في كل ش�ؤوننا في الس�احة اإلسالمية ،ش�ؤوننا السياسية ،وش�ؤوننا االقتصادية ،وشؤوننا الثقافية ،ش�ؤوننا الفكرية ،شؤوننا االجتامعية ،في كل تفاصيل حياتنا ،وفي كل ش�ؤون حياتنا ،ويصيغ برنامج ًا يأخذ من اإلسلام ش�كليات معينة ،ثم 93
يك�ون في واقع الحال عل�ى النحو الذي تحقق من خالل�ه مصالح أمريكا فوق كل اعتبار ،فوق كل ش�أن ،فوق كل مس�ألة .املس�ألة األولى والرئيسية ِ�ح املجال للجبارين تك�ون على هذا النح�و ،هي هذه النتيجة في األولُ :فت َ والجائري�ن والظاملي�ن ،ثم والية األم�ر اليهودية والصهيوني�ة واألمريكية، ((( لتكون هي من يحكم واقعنا.
الإيمان بمبد�أ الوالية ..ما ذا يعني؟ ثم يبقى لنا أن نؤكد على أن اإليامن بهذه الوالية ليس مجرد كال ٍم نقول�ه ،ليس عبار ًة عن انتام ٍء مذهبي ،كمذهب وانتهى األمر؛ إنام هو عالقة فيه�ا ارتب�اط مب�دأي ،وأخالقي ،وعمل�ي ،نرتبط بهذا اإلسلام في منهجه العظيم ،في مش�روعه العظي�م ،فنجعل من عليٍ حلقة الوص�ل التي تربطنا برس�ول اهلل (صلى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) تربطنا بهذا اإلسلام في مبادئه، بهذا اإلسالم في أخالقه ،بهذا اإلسالم في مشروعه العملي ،بهذا اإلسالم فيام يقدمه لنا من وعي ،من بصائر ،من حقائق ،يكون مس�توى هذه العالقة م�ن خلال التفاع�ل ،من خلال تفاعلك أن�ت به�ذه العالقة ،إق�رارك بها يس�اعدك على أن تبني على هذا اإلقرار هذا التفاعل الالزم؛ لكي تس�تفيد، لك�ي تك�ون ملتزم ًا به�ذه الوالية في واقع�ك العملي وفي التلق�ي الثقافي والفكري الذي تعرف به اإلسلام كام هو؛ لتتحرك على أساس ذلك عملي ًا بااللتزام في مسيرة حياتك ،هذه هي املسألة املهمة جدًّ ا. ((( من محاضرة للسيد القائد بمناسبة الوالية لعام 1438هـ.
94
من النعمة أن يكون اإلنس�ان مؤمناً ،متقبالً ،منس�ج ًام مع رسول اهلل
(صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم) فيام يقدمه ،تمثل مسألة التجاهل لهذا اإلعالن
والبالغ العظيم ،وتمثل مس�ألة الجحود ملدلوله الحقيقي ومعناه الصحيح، تمثل مش�كل ًة على البع�ض من أبناء األمة ،تفصلهم ع�ن هذا االمتداد؛ فال موقف صعب ،في بيئة يسهل اختراقها ٍ يس�تفيدون منه كام هو ،فيكونون في وتأثي�ر األع�داء عليه�ا ،ف�ي بيئة يكث�ر فيها التش�ويش واالختلال الثقافي
والفك�ري ،ف�ي بيئة تصع�ب فيها عملية الوع�ي والفهم الصحي�ح والنظرة الصحيحة ،في بيئة تعيش حالة االنفالت والفوضى على املس�توى الثقافي والفكري؛ فيسهل فيها االختراق ويسهل فيها التأثير.
ولكن من يعيشون حالة االنتامء لهذا املبدأ العظيم عليهم أن يكونوا
واعي�ن مل�ا يعنيه ه�ذا االنتامء ف�ي تفاعلهم؛ حتى يعيش�وا ثمرة ه�ذا االنتامء
وهذا اإليامن ،ثمرته العظيمة التي وعد اهلل بها برعايته (س���بحانه وتعالى) حتى يحسوا بهذه العالقة مع اهلل ،عالقة الوالية اإللهية في االرتباط باهلل (سبحانه
وتعالى) من خالل االرتباط الصحيح والواعي والفاهم والكامل بمش�روعه
العظيم (((.نس�أل اهلل (سبحانه وتعالى) أن يوفقنا وإياكم لكي نكون ممن يؤم�ن بهذا املب�دأ العظيم ،يتفاعل معه إيامنياً ،فنكس�ب ه�ذه الثمرة
َ َ ْ َ َ َ َّ هَّ َ َ َ ُ هَ ُ َ ذَّ َ َ ُ َ َّ ْ َ هَّ حزب اللِ العظيمة} :ومن يتول الل ورس��ول والِين آمنوا فإِن ِ ُ ُ َْ ُ َ هم الغ بِ الون{.
•••
((( من محاضرة للسيد القائد بمناسبة الوالية لعام 1440هـ .
95
الباب الرابع الوالية الطاغوتية قدمت كبديل للوالية الإلهية الر�سول �صلى اهلل عليه وعلى �آله و�سلم في يوم الغدير حدد لنا م�صادر الهداية الرس�ول (صل���ى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) وه�و عائدٌ من حج�ة الوداع،
والتي سميت بهذا االسم؛ ألن الرسول (صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم) عندما تحدث فيها أش�عر أمته اإلسالمية ،ومن خالل تحدثه إلى املجاميع الكبيرة (عش�ـرات اآلالف من الحجاج) أنه على وش�ك الرحيل م�ن هذه الحياة،
وبالتالي كان هناك أهمية قصوى لكل ما يركِّ ز على تقدميه إلى أمته ،وعلى تبليغ�ه للن�اس؛ ألنه وهو في املرحل�ة األخيرة من حيات�ه ،وقبل رحيله من هذه الحياة ،يركِّ ز على أهم املسائل ،ويركِّ ز على استكامل ما تبقى مام ينبغي
التأكيد عليه ،أو تقديمه إلى األمة مام له صلة أساسية بدينها.
الرس�ول (صلى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) وأثناء عودته من حجة الوداع،
وعندم�ا بلغ إلى وا ٍد يس�مى خمً ا ،وهو ما بين مك�ة واملدينة ،وهو إلى مكة
-كما يق�ال -أقرب من�ه إلى املدين�ة ،نزل علي�ه ق�ول اهلل (س���بحانه وتعالى):
َّ ْ َ ْ َ ْ َّ ّ َ َ َ ُّ َ َّ ُ ُ َ ّ ْ َ ُ َ يَ ْ َ ن��زل إِلك مِن ربِ��ك ِإَون لم تفعل }ي��ا أيها الرس ��ول بلِغ ما أ ِ تَ َ َْ َّ َهّ َ َ َ َّ ْ َ َ َ ُ َ ُهّ َ ْ ُ َ ِ��ن َّ كم َ اس إِن الل ال يه ِدي صم انل ِ فما بلغت ِرس��اله والل يع ِ الْ َق ْو َم الْ اَكف ِر َ ين{ [املائدة :اآلية ،]67كان ذلك في يوم الثامن عش�ر من ش�هر ِ 96
ذي الحج�ة ،ه�ذه اآلية العجيب�ة املضم�ون ،واملهمة املضمون ،والس�اخنة
املضمون ،تأكيد على رس�ول اهلل (صلى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) بأن يبلِّغ ما
أن�زل إلي�ه من ربه ،موضوع معين له أهمية قصوى ،بلغت أهميته لدرجة أن
َّ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ َّ ْ َ
َ تَ َ ُ
اهلل قال له في ذات اآليةِ} :إَون لم تفعل فما بلغت ِرساله{.
بأدن�ى تأم�ل -مع التج�رد من األه�واء والعصبيات ،وم�ع التوجه
الصادق نحو اهلل (س���بحانه وتعالى) وطل�ب الهداية -يتجلى لنا كم هي أهمية موض�و ٍع يخاط�ب اهلل نبي�ه بش�أنه به�ذا الخطاب! ويق�ول له به�ذا النص:
َّ ْ َ ْ َ ْ
َ َ َ َّ ْ َ
َ تَ َ ُ
}وإِن لم تفعل{ ،يعني :لم تبلِّغ هذا املوضوع }فما بلغت ِرساله{، مطلوب منك وأنت مأمورٌ م�ن اهلل أن تبلِّغه ،غيابه، ٌ غي�اب هذا املبدأ ال�ذي أو كذلك تجاهله يمثِّل مش�كل ًة كبيرةً ،وتمتد آثارها الس�لبية والس�يئة على
واقع الدين بكله ،حتى يبقى ما بقي من الدين بكله في كل تش�ـريعاته ،في كل توجيهات�ه ،ف�ي كل قيمه ،في بقي�ة محتواه وكأنه لم يُبلَّ�غ ،يكون عديم الجدوى ،يكون عديم التأثير ،تتعطل آثاره وفوائده وثامره التي هي مفترضةٌ
م�ن دي�ن اهلل (س���بحانه وتعالى) حت�ى كأنه ال ش�يء منه في واق�ع الحياة ،هذا
الن�ص القرآن�ي يدلل عل�ى أهمية هذا املب�دأ ،هذا املوضوع ال�ذي له أهمية قص�وى ف�ي فاعلية الدين بكل�ه ،في حيوية الدين بكله ،ف�ي أن تتحقق آثار ه�ذا الدين في مجمل وتفاصيل تش�ريعاته وتوجيهاته وتعليامته ،فام هو هذا
املوضوع؟
ه�ذا النص اإللهي ،وه�ذا األمر اإللهي ،وه�ذا التوجيه اإللهي أتى
إل�ى النبي (صلى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) وأُن�زل عليه في آخر أيام حياته ،ما 97
قب�ل وفاته بأقل من ثالثة أش�هر ،إذا جئنا للنظرة إل�ى الدين ،وإلى تعليامت ه�ذا الدي�ن ،وإلى مبادئ هذا الدين ،وإلى أس�س هذا الدين ،وإلى ش�رائع ه�ذا الدي�ن ،وإل�ى أحكام ه�ذا الدي�ن؛ نجد أنها ف�ي هذا الزم�ن كانت قد
نزلت ،أكثرها كان قد نزل ،كل ما يتصل بمسألة التوحيد قد نزل ،ومن أول
م�ا نزل :مس�ألة التوحيد ،ومحاربة الش�رك ،وما يتصل بمعرفة اهلل (س���بحانه وتعال���ى) والجوان�ب اإليامني�ة ذات الصل�ة به�ذا املوض�وع .أب�رز األحكام
الش�رعية واإلسلامية كانت قد نزلت ،مثلاً :أركان اإلسالم الخمسة ،كلها
ق�د قُدِّ مت إلى األمة :مبدأ التوحيد ،مس�ألة الصالة ،مس�ألة الزكاة ،مس�ألة
الصيام ،مسألة الحج ،كلها كانت قد نزلت.
املواق�ف ذات األهمي�ة الكبرى م�ن كل كيانات الطاغوت وقوى الش�ر
والباط�ل ،املوق�ف املتعلق بالكافري�ن من اليهود والنص�ارى ،وكل الفئات الحاض�رة في الس�احة املحلي�ة والعاملية -آنذاك -كانت قد نزلت وبش�كلٍ
حاس�م ،بام في ذلك املواقف ذات الصل�ة باليهود أو بالنصارى ،كلها كانت
قد نزلت ،والنبي (صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم) قد قطع شوطً ا عظيمً ا ومهمً ا في هذا الجانب حتى على املس�توى العملي ،مثًل�اً :فيام يتعلق بالصراع مع اليه�ود ،تحدد املوق�ف منهم ،واتُخِ ذ عمليًا املوقف اللازم منهم ،وهُ زِمُ وا،
وطُ � ِر َد أكثرهم م�ن الجزيرة العربي�ة ،البعض منهم ُقتِلوا ف�ي ظل الحروب معه�م ،والبع�ض منه�م أرغم�وا عل�ى دف�ع الجزي�ة واستس�لموا للدول�ة اإلسالمية.
تجاوز املشكلة معهم ،يعني لم يبقَ هناك شيء إضافي يمكن أن يمثِّل 98
حساس�ية كبيرة في تبليغه للناس ،أو في تقديمه للناس ،مام يتصل باملواقف من كل تلك الفئات التي هي خارج إطار اإلسالم واألمة اإلسالمية ،والتي
لها مواقف ،أو هناك صراعات معها في الساحة العاملية .ال ،الروم ،غيرهم، املسألة هذه خالص استكملت من األساس.
في الس�احة العربي�ة محاربة الش�رك ،محاربة الظواهر الس�يئة جدًّ ا
عل�ى املس�توى األخالقي ،على املس�توى الحياتي ،على مس�توى العادات والتقاليد ،في الحالل والحرام والشرائع واألحكام قد نزلت ،وقد قُدِّ مت، وقد س�ادت في الواقع العربي ،وقد فرضت نفس�ها في واقع الحياة بس�عيٍ
حثيث من رسول اهلل (صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم) وجه ٍد عظيم في التبليغ ٍ والسعي في التطبيق ،وبتأيي ٍد من اهلل (سبحانه وتعالى).
فام هي هذه املسألة بالغة األهمية ،ما هو هذا املوضوع؟ الرسول (صلى
اهلل علي���ه وعلى آله وس���لم) هو الذي يعلِّمنا ،ومنه نع�رف ما هو هذا املوضوع امله�م ،وما الذي فعله بعد نزول هذه اآلية املباركة في ذات اليوم نفس�ه ،بل
في بعض اآلثار في تلك الساعة نفسها.
الترتيبات الكبيرة للبالغ ال�ساخن الرس�ول (صل���ى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) جمع الحجي�ج ،أبلغ من قد
تق�دَّ م منهم أن يع�ود ،قلة أو البعض منهم كانوا قد تجاوزوا قليلاً أو يس�يرً ا ممن كانوا قبله في القافلة ،واملنطقة نفس�ها هي ال زالت منطقة يتواجد فيها
كل الحج�اج ،قب�ل أن يتفرقوا إل�ى اآلفاق ويتجه�وا إلى بلدانه�م ،وانتظر 99
للمتأخرين حتى اجتمعوا ،الكل ُجمِعوا في صعي ٍد واحد ،في مكانٍ واحد، في ساح ٍة واحدة ،وفي منتصف النهار ،كل اإلجراءات التي عملها الرسول (صل���ى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) تتناس�ب تاممًا مع طبيع�ة النص القرآني ،مع
َّ ْ سخونة هذا النص القرآني ،مع قوة هذا النص وهذا التعبير القرآني} :بلِغ َّ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ َّ ْ َ َ تَ َّ ّ َ َ ُ َ يَ ْ َ ُ َ نزل إِلك مِن ربِك ِإَون لم تفعل فما بلغت ِرس��اله{ ،اهتامم ما أ ِ كبي�ر ،وتصـ�رف يعطي أهمي ًة كبرى ملا س�يقدم ،ذلك االس�تدعاء ،وعملية
التجميع في تلك الس�احة في تلك اللحظة بالتحديد ،في وس�ط النهار ،في وقت من الح�رارة والقيظ ،الجميع جمع في ندا ٍء منتصف النهار ،في أش�د ٍ
عاجل ،وتجميع بطريقة تعطي أهمية ملوضوع بالغ األهمية سيقدم.
جمعوا كلهم ،وجلسوا ،اتجهت أنظارهم إلى الرسول (صلى اهلل عليه
وعل���ى آله وس���لم) وق�د أعد له مكان مرتف�ع ليكون قائمً ا مق�ام املنبر ،وجمع
م�ن أقتاب اإلبل ،ولكث�رة الناس وكثرة الحجاج أصب�ح ذلك املكان الذي رصت فيه أقتاب اإلبل أصبح مكانًا مرتفعً ا ،صعد عليه ومعه شخص ،ذلك َّ
وعلي ش�خصية معروفة ل�دى املجتمع ّ علي ب�ن أبي طالب، الش�خص هو ّ
ش�خصا غريبًا عليهم ،الرسول (صلى اهلل عليه وعلى ً اإلسلامي آنذاك ،ليس
ووج�ه خطابه الهام ج�دًّ ا ،في ذلك الجو ال�ذي كله يقدِّ م آله وس���لم) صعد َّ
صورة عن أهمية املوضوع إلى أقصى حد ،اتجهت أنظار عش�رات اآلالف
من املسلمين إلى رسول اهلل (صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم) بانتظار ما سيقدمه وما سيعلنه ،فهناك بالغ تاريخي هام وفي مرحلة مهمة.
100
الخطاب التاريخي العظيم وم�ضمونه المهم خطب رسول اهلل (صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم) خطابًا تاريخيًا وعظيمً ا
ومهمً ا ،وهيأ في مقدمة حديثه الذهنية العامة لذلك املوضوع الرئيسي ،حتى
ولي، هلل َم اَ ِن ا َ وص�ل إلى صلب املوضوع ثم قال لهم( :يَ���ا أ َُّيهَا النَّاس ،إ َّ وله، كنت َم اَ َمن ُ ُس���هِم ،ف َ ِي���ن ،أَولَى ِبهِم ِمن أَنف ِ ؤمن َ الم ِ َوأَنَ���ا َمولَى ُ علي (عليه وله) ،وكان قد مس�ك بيد علي ،ثم رفع ي�ده ويد ٍّ ِي َم اَ َ���ذا َعل ٌّ َفه َ الس�ل�ام) إل�ى األعلى ،يق�ول الرواة[ :حت�ى رُ ؤي بياض إبطيهما] ،الرتفاع
َعا ِد َم���ن َعادَاهُ، َالهُ ،و َ ُ���م وَال َم���ن و اَ ���ولهُ ،الله َّ ِي َم اَ َ���ذا َعل ٌّ يديهماَ ( ،فه َ َانصر َمن ن َ و ُ َص َره ،وَاخذُل َمن َخ َذلَه) ،هذا البالغ الذي قدَّ مه الرس�ول (صلى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) اس�تجاب ًة ألمر اهلل (س���بحانه وتعالى) في قوله:
َّ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ َّ ْ َ َ تَ َّ ّ َ َ ّ ْ َ ُ َ يَ ْ َ ��الَهُ نزل إِلك مِن ربِك ِإَون لم تفعل فما بلغت ِرس }بلِ��غ ما أ ِ َ ُهّ َ ْ ُ َ ��ك م َِن َّ صم اس{ [املائدة اآلية ]76يحم�ل مضمونًا مهمً ا ومبدً أ انل ِ والل يع ِ عظيمً �ا ،ولي�س من املنط�ق نهائيًا أن تأتي اآلي�ة املباركة به�ذه اللغة القوية، به�ذا املنطق القوي ،بهذا التعبير ال�ذي له مضمون يدل على أهمية كبيرة ملا
سيؤمر ،أو ملا أُمر بتبليغه ،ويتخذ الرسول (صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم) تلك اإلجراءات التي هي إجراءات اس�تنفار ،وإجراءات فعَّ الة ،تقدم بذاتها عن موضوع في غاية األهمية ،ثم يقول هذا الكالم ،ويقدمه بهذا التسلسل ،ثم
تك�ون املس�ألة :ال ،موضوع طبيعي جدًّ ا ،وليس ل�ه أي مضمون أو مدلول مهم ،هذا ليس منطقيًا أبدً ا.
101
كما قلنا ه�ذا املبدأ العظيم ،وهذا املوضوع امله�م يحتاج إلى أن يتعامل
معه اإلنسان بإيامن وتقوى ،وتجرد من األهواء والعصبيات ،تجرد تام} ،قل َ َ ُ ُ للِهَّ َ ْنىَ َ ُ َ َ ُ َّ َ َ َ َّ ُ إنم��ا أعظكم بواحدة أن تقوموا ِ مث وفرادى ثم تتفكروا{ [س�بأ :من اآلية ،]46أن يتجرد اإلنس�ان من كل األهواء والعصبيات؛ ألن املس�ألة ومحس�وب أهميته�ا بالن�ص القرآن�ي نفس�ه ،بالبلاغ النب�وي ذاته، ٌ مهم�ة، بالطريقة التي قدَّ م فيها الرسول (صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم) ذلك البالغ.
أيضا ،ندخل إلى نص قرآنيٍ آخر له عالقة مهمة ً أيضا إلى ٍ ثم نأتي ً
لحديث أوسع ،ثم نعود من جديد -إن شاء اهلل- ٍ أيضا ذلك النص ،ثم نأتي ً
في آخر الحديث إلى نفس البالغ النبوي.
يوم كمال الدين هن�اك نص قرآني آخر ،من املأثور عن رس�ول اهلل (صلى اهلل عليه وعلى
أيضا نزل ف�ي نفس اليوم( ،ي�وم الوالية) وله عالقة مباش�رة آل���ه وس���لم) أنه ً
يْ َ ْ َ َ ْ َ ْ ُ وصل�ة تامة بذلك البالغ ،هو قول اهلل (س���بحانه وتعالى)} :الوم أكملت ُ َ ُ ُ ْ َ َ ُ ْ َ ُ ْ ََْ َ ْ ُ َ َْ ُ ْ ْ المَ َ َ َ اإلس لكم دِينكم وأتممت عليكم ن ِعم يِت ور ِ ضيت لكم ِ ً أيضا دِينا{ [املائدة :من اآلية ،]3هذه الفقرة القرآنية ،هذا النص القرآني العظيم ً يْالَ ْومَ { ،هجي تحكي عن مرحلة معينة ،عن مناسبة له داللة مهمة جدًّ ا} ، َ ْ َ ْ ُ َ ُ ْ َ ُ ْ َ َ ْ َ ْ ُ َ َ ْ ُ ْ َْ واضح�ة} ،أكمل��ت لكم دِينك��م وأتمم��ت عليكم ن ِعم يِت ً ُ َ ُ ك ُم ْ َ َ ضيت ل اإلسالم دِينا{. َو َر ِ ِ 102
ه�ذا النص القرآن�ي يدل بكل وض�وح على أن اهلل (س���بحانه وتعالى) في
ذلك اليوم ،وبامذا؟ بمجرد يوم هكذا دخل ،كان اإلسالم عبارة عن مرحلة
زمنية معينة يحتاج إلى يوم إضافي واكتمل؟ .ال ،اكتامل هذا الدين بشمولية م�ا تناوله من ش�ؤون حياتنا كبش�ر ،حياة اإلنس�ان كإنس�ان ،حي�اة املجتمع كمجتمع ،كامل هذا الدين أن يكتمل فيام يش�مله ويتناوله من كل ما له صلة
بحياة هذا اإلنس�ان ،مام تتعلق به مس�ؤوليات هذا اإلنس�ان ،مام يترتب عليه فالح هذا اإلنسان أو خسرانه ،هذا هو كامل الدين ،كامل يتصل بواقع حياته،
بشؤون حياته ،بمسؤولياته ،بمستقبله ،وعندما نأتي إلى هذا يعني :أن الدين لم يترك ش�يئًا ذا أهمية من ش�ؤون هذا اإلنس�ان إال وتناوله من كبير األمور
وصغيرها ،كل ش�يء مهم من واقع هذا اإلنس�ان ،يحتاج فيه هذا اإلنس�ان إل�ى هداي�ة ،يحتاج إلى توجيهات ،إلى تعليامت من اهلل (س���بحانه وتعالى) إال
وتناوله.
الربط بم�صادر الهداية �أعظم نعمة على الب�شرية ََْ َ ْ ُ َ َْ ُ ْ ْ َ }وأتمم��ت عليكم ن ِعمت{ ،وما أعظم نعمة اإلسلام ،ما أعظم
نعمة اإلسلام؛ ألنه دين اهلل ،توجيهات اهلل وتش�ريعاته وتعليامته ،التي أتت
م�ن منطلق رحمته ،وهو أرح�م الراحمين ،من منطلق حكمته ،وهو أحكم
الحاكمي�ن ،من منطلق علمه ،وهو املحيط بكل ش�يء علام ،والعليم الخبير بمصلحة هذا اإلنسان ،وما يسعد هذا اإلنسان ،وما يصلح حياة هذا اإلنسان، وهو الذي يريد الخير والسعادة والفالح لهذا اإلنسان ،هو ربنا الرحيم بنا، 103
(جل ش���أنه) من ال يمكن ألي طرف الكري�م ،العظي�م ،العلي ،الحكيم ،هو َّ وال ألي جه�ة أن يق�دم لنا في واقع حياتنا ال تعليامت ،وال تش�ريعات ،وال
توجيه�ات أه�دى ،أو أرحم ،أو أحكم ،أو أنس�ب ،أو أفض�ل ،أو أرقى مام يأتين�ا من اهلل (س���بحانه وتعالى) وهو ربن�ا الذي له حق الربوبي�ة علينا ،وعلينا
ح�ق العبودية له ،نحن عبي�ده ،يجب أن نكون في حياتنا هذه متجهين على وحكمه ،وهذا أس�اس :توجيهاته ،وتعليامته ،وإرشاداته ،وش�رعه ،وأمرهُ ، هو أس�اس الدين أصًل�اً ،الدين يمثِّل نعم� ًة عظيم ًة من اهلل (س���بحانه وتعالى)
وهو ينقذ هذا اإلنسان من االرتباط باملصادر األخرى ،التي هي الطاغوت،
الطاغوت الذي يس�تعبد هذا اإلنسان ويس�تغل هذا اإلنسان ،واإلنسان في واقع هذه الحياة إما أن يكون له عالقة وارتباط تام وتوجه على أساس دين اهلل وتعليامت�ه وتوجيهاته ،فيكون عبدً ا هلل ،متجهً ا على أس�اس هديه ونوره، ومرتبطً �ا بمص�ادر الهداي�ة من اهلل (س���بحانه وتعالى) وإما أن يك�ون في حال ٍة توجهه ،تتحكم به ،تس�تغله، أخ�رى هي ارتباط بمصادر أخرى تؤثِّر عليهِّ ،
تس�تعبده ،ال فكاك لإلنس�ان بي�ن أن يكون في اتجا ٍه م�ن هذين االتجاهين أبدً ا أبدً ا.
وعندما نأتي إلى هذا اإلسلام العظيم بنبيه وقرآنه ،فإن النعمة هي
ه�ذه النعم�ة ،ارتباطنا بمصادر الهداي�ة اإللهية :القرآن ،كت�اب اهلل ،وحيه،
كلامت�ه ،ن�وره ،تعليامت�ه ،توجيهات�ه ،كلامت�ه التام�ة بالعدل والح�ق والخير
والرحمة والحقائق ،ونبيه ،رسوله ،خاتم أنبيائه ،محمد (صلى اهلل عليه وعلى أيضا صلة بيننا وبي�ن اهلل ،تلقى هذا الن�ور ،وأتى بهذا آل���ه وس���لم) الذي ه�و ً 104
الوحي ،أتى بهذا الهدى ،بلَّغ هذه الرسالة ،ثم كان هو أول املسلمين ،وأول املصدِّ قين بهذا الحق ،وأول وأعظم املتمسكين بهذا الهدى ،وأعظم الخلق
عبودي ًة هلل والتزامًا بنهج اهلل (س���بحانه وتعالى) والق�دوة والقائد الذي يتحرك بنا بنا ًء على أساس هذا الهدى ،يربي على أساسه ،يهدي على أساسه ،يقيم واقع الحياة بنا ًء على أساس هذا النور وهذا الهدى.
مص�ادر الهداي�ة :الرس�ل واألنبياء صل�ة تصلنا ب�اهلل (س���بحانه وتعالى)
صل�ة موثوق�ة ،صلة س�ليمة ،صلة صادق�ة ،يصل من خاللها إلين�ا نور اهلل،
هدي�ه ،تعليامته ،ن�وره؛ فنزكوا به�ذا الهدى ،ونعتز به�ذا الهدى ،ونتخلص
بهذا الهدى من كل أش�كال االس�تعباد واالستغالل من كل قوى الطاغوت وأدواتها املضلة.
الجاهلية هي حالة انف�صال عن م�صادر الهداية وارتباط بالطاغوت ولذلك نحن نلحظ وضعية ما قبل اإلسالم كيف هي ،ما قبل مجيء
رس�ول اهلل ومج�يء القرآن كيف ه�و الوضع ،كيف هي الحالة الس�ائدة في
واقع البش�ر ،الحال�ة الخطيرة جدً ا ،الحالة الجاهلي�ة :هي حالة انفصال عن مص�ادر الهداي�ة ،هذه حالة الجاهلية :حالة انفصال ع�ن مصادر الهداية ،ثم
يخضع اإلنسان في ظل هذه الحالة من االنفصال عن مصادر الهداية يخضع ف�ي توجهاته ف�ي الحياة ،وانطالقته في واقع الحياة ،ملا يأتيه من قبل آخرين، غير مص�ادر الهداية ،قوى الطاغوت ،القرآن يس�مي الجهات األخرى التي
يرتبط بها اإلنسان كبدائل عن مصادر الهداية ،يسميها القرآن بالطاغوت. 105
ما ذا يعني الطاغوت؟ وما هو دوره الخطير؟ الطاغوت :كل تلك الكيانات ،أو األشخاص ،إما كيان ،وإما شخص،
وإما منهج يرتبط به اإلنسان كبديل عن مصادر الهداية ،ثم يتأثر به ،يسير في هذه الحياة على ضوء وعلى أس�اس ما يقدم إليه منه ،تلك البدائل التي هي
الطاغوت ارتبط بها البش�ـر ،وارتبطت بها املجتمعات البشرية ،تأثرت بها،
تلق�ت منها :املفاهيم ،التصورات ،األف�كار ،وبنت على ذلك حياتها ،بنت على أس�اس ذلك :الحياة ،املواقف ،الس�لوكيات ،التصرفات ،التوجهات، ومن خالل ذلك يستغل هذا اإلنسان ويستعبد هذا اإلنسان.
مع أن قوى الطاغوت وهي تس�عى إلى التأثير على هذا اإلنسان،
التأثي�ر عليه في تفكيره ،في أفكاره ،ف�ي تصوراته ،في عقائده ،في املفاهيم
التي ينطلق على أساسها في هذه الحياة ،فيام يعمل ،وفيام يترك ،وفي مواقفه، وف�ي والءاته ،وفي عداواته ،وفي مختل�ف تصرفاته في هذه الحياة ،أحيانًا
حت�ى ق�د تتخاطب مع هذا اإلنس�ان حتى باس�م الدين ،وق�د تنطق عن اهلل افترا ًء على اهلل وزورً ا على اهلل ،لكي تقنع هذا اإلنسان؛ ألن قوى الطاغوت
هي تدرك أن هذا اإلنس�ان مفطورٌ من األساس على التدين ،على معرفة أو استشعار أن عليه أن يعبد اهلل ،أن يطيع اهلل ،أن يلتزم بأمر اهلل ،على أن يعيش عب�دً ا هلل ،فتأت�ي قوى الطاغ�وت حتى في كثيرٍ ،بل في أكث�ر األحوال ،وفي
أكث�ر املجتمعات ،وف�ي أكثر مراحل التاريخ ،لتخدع هذا اإلنس�ان ،وتضل هذا اإلنس�ان ،وتس�تغل هذا اإلنس�ان ،وتقنع ه�ذا اإلنس�ان بعقائد وأفكار 106
وتصورات معين�ة ،ومفاهيم معينة يبني عليها أعامل�ه واتجاهاته في الحياة، وتحسبها على اهلل (سبحانه وتعالى) وتعترف باهلل.
املجتم�ع الجاهل�ي يتصور البع�ض أنه كان مجتمعً �ا ينكر وجود
اهلل ،ه�ذه صورة منتش�رة في ذهنية الكثير من الناس ،ويتوقع عندما يس�مع بالكافري�ن ،عندم�ا يتح�دث الق�رآن الكري�م ع�ن الكافري�ن ف�ي املجتمع الجاهلي ،عن املش�ـركين في املجتمع الجاهل�ي ،أنه كان مجتمعً ا منكرً ا هلل
من األس�اس ،يعني :مجتمعً ا ال يعترف بوجود ش�يء اسمه اهلل .ال ،املسألة ليست كذلك ،إذا جئنا إلى ما يحدثنا به القرآن عن املجتمع الجاهلي الكافر
واملش�رك ،واملرتبط بالطاغوت ،والجاحد للرس�الة اإللهية ،واملنكر للنبوة، والراف�ض تاممًا للرس�ول والق�رآن ،هذا املجتم�ع يقول اهلل عنه ف�ي القرآن
َ َ َ َ تْ َ ُ َّ ْ َ َ َ ُ ْ يَ َ ُ ُ َّ هَّ ُ الكريم} :ولئِن سألهم من خلقهم لقولن الل{ [الزخرف :من اآلية ،]87 َ َ َ َ تْ َ ُ فهم معترفون باهلل ،ومعترفون بأنه الخالق ،أكثر من ذلك }ولئِن سألهم َّ ْ َ َ َ َّ َ َ َ لأْ َ ْ َ ات وا رض{ [العنكبوت :من اآلية ،]61هذا العالم بسامواته من خلق السماو ِ يَ ُ ُ ْ َ وأرض�ه م�ن هو الخال�ق ل�ه؟ }لَ ُقول َّن هَّ ُ الل{ ،أكثر من ذل�ك }قل من َ ْ ُ ُ ُ ّ َ َّ َ ِ َ َ ْ َ َّ َ ْ ُ َّ ْ َ َ ْ َ َ َ َ يرزقكم مِن السماء واألر ِض أمن يملِك السمع واألبصار ومن َ َُّ َ خُ ْ ُ ْ يَ َّ َ ْ َ ّ َ ُ ْ ُ ْ َ َّ َ األ ْمرَ ت م َِن الْ يَّ ح َومن يدب ِ ُر ت ويخ ِرج المي ي ِرج الح مِن الميِ ِ ِ َ حْ َ َ َ َ َ َ َ ُ ُ َ ُهّ َ ُ ْ ُ ُّ َ َّ َ ُ ُهّ ُّ ُ ��يقولون الل فقل أفال تتقون 31فذلِك ُم الل َربك ُم الَق فس َ حْ ىَّ َ ُ َّ َّ َ ُ َ ََ َ َْ َ َ ّ ُصرْ ��ق إِال الضالل فأن ت َ فون[ {32يون�س] ،فهم كانوا فماذا بعد ال ِ يعترفون باهلل أنه موجود ،أنه الخالق ،أنه الرازق ،أنه مدبر شؤون الساموات 107
واألرض ،أن�ه من يخ�رج الحي من امليت ويخرج املي�ت من الحي ،أنه من
يملك السمع واألبصار ...هم يقرُّ ون بهذا كله ،ويعترفون بهذا كله.
قوى الطاغوت وخداعها للنا�س وف�ي نف�س الوق�ت يحاولون أن يحس�بوا بقي�ة العقائ�د التي هي
خ�روج عن هذا اإلق�رار ،وتنكر لهذا اإلقرار ،يحاولون أن يحس�بوها على
َ َ ُ ُ ذَّ َ َ رْ َ ُ ْ َ ْ َ اهلل (س���بحانه وتعالى) يقول اهلل عنهم} :س��يقول الِين أشكوا لو ش��اء يَ ُهّ َ َ رْ َ ْ َ َ َ َ ُ َ َ َ َ َّ ْ َ ْ الل م��ا أشكنا وال آباؤنا وال حرمنا مِن ش ٍء{ [األنعام :من اآلية،]148
يحاولون أن يحس�بوا حتى عقيدة الش�رك ،وهي أسوء عقيدة وأفظع عقيدة
يتنكر اإلنس�ان فيه�ا ألعظم مبدأ ،وهو مبدأ التوحي�د ،حتى في هذه الحالة يحاولون أن يحس�بوا هذه العقيدة على دين اهلل ،وأن يشرعنوها ويحسبوها
كعقي�دة مق�رة ومعتب�رة في الدي�ن اإلله�ي ،يحاول�ون أن يخدع�وا الناس
به�ذا ،وإال لو جئن�ا -مثلاً -إلى حكاية من أعج�ب الحكايات ،من أغرب
الحكاي�ات ف�ي الواقع البش�ري ،وه�ي :حكاية عب�ادة األصن�ام الحجرية والخش�بية ،وأي أصن�ام مصنوعة م�ن أي مواد أخرى ،تل�ك األصنام التي كان�ت تصن�ع م�ن مادة معين�ة ،م�ن الحجار ،نحت�ت من الصخ�ور ،أو من األخش�اب ،أو من مواد أخرى ،ثم إما تش�ترى ،وإما تق�دم هدية بعد إكامل عملي�ة الصناعة لها ،ثم تقدَّ م على أنها آلهة ،ويطلب من الناس أن يعبدوها
وأن يعتبروها آل ًة مع اهلل ،وأن يجعلوها شريكً ا هلل في امللك ،وشريكً ا هلل في األمر ،ويطلبون منها :النصر ،والرزق ،والخير ،ووو...الخ .ويتقربون إليها 108
بالعب�ادة بش�كل صريح ،ولي�س إلزاميًا ،هل كانت تل�ك األصنام الحجرية في نفس�ها وفي ذاته�ا ذات جاذبية ،ذات تأثير ،تس�تطيع أن تصنع قناعة في
الذهنية البشرية ،في فكر الناس ،في قلوبهم ،وأن تجعلهم يعتقدون عقيدة
أنه�ا آلهة م�ع اهلل؟ ال ،كان هناك من يأتي من واقع البش�ـر من يصنع عقيدة
كه�ذه ،هو الصنم الحقيق�ي الذي يصنع عقيدة كتل�ك العقيدة ،من يتمكن من خداع البش�ر وتضليلهم ،من يصل به الحد في س�عيه إلقناعهم أن يقدم عقيدة كهذه ،على أنها عقيدة أتت بمشيئة اهلل وبإذنه ،وأنها من اهلل ،وأن اهلل
يري�د منكم هكذا ،فينطق عن اهلل بالزور ،واالفتراء على اهلل ،والكذب على
ُهّ َ َ رْ َ ْ َ َ َ َ ُ َ َ َ َ َ اهلل ،ث�م تأتي تبريرات كهذه }ل ْو ش��اء الل ما أشكنا وال آباؤنا وال َ ىَّ َ ُ ْ َ ْ َ َ َْ ش ٍء َك َذل َِك َك َّذ َب ذَّال َ َح َّر ْم َنا مِن يَ ْ ِين مِن قبلِ ِهم حت ذاقوا بأسنا َ ُ ّ ْ ْ َ ُ ْ ُ ُ لنَ َ َّ ُ َ َّ َّ ُْ َْ ْ وه َا إِن تتبِعون إِال الظ َّن ِإَون قل هل عِندكم مِن عِل ٍم فتخ ِرج َ ُ ْ َّ خَ ْ ُ ُ َ أنتم إ َال ترصون{ [األنعام :من اآلية.]148 أيضا إلى بقية ليس على املس�توى العقائدي فحس�ب ،تأتي املس�ألة ً
التفاصي�ل ،إل�ى الحلال والحرام ،فتصنَّف أش�ياء معينة عل�ى أنها حالل،
وتصنَّف أشياء معينة على أنها حرام ،هذا في املجتمع الجاهلي ،في املجتمع الجاهلي نفس�ه ،وأش�ياء مهمة هي من الحالل تحرم ،وأشياء محرمة -في واقع الحال -في دين اهلل يقدِّ مونها في قائمة الحالل ،كل هذا يحسب على
م�ن ،وكيف يقدَّ م للناس؟ وكيف تتمكن قوى الطاغوت التي تضل الناس، وتؤث�ر عليهم ،وتحوِّ ل م�ا تقدِّ مه له�م كالتزامات دينية يلتزم�ون بها تدينًا، وتصبح جزءًا أساس�يًا في التزامات الناس ومامرساتهم الحياتية ،وقناعاتهم 109
التي يتش�بثون به�ا ،ويتعصبون لها ،ويغضبون من أجله�ا ،بل ويقاتلون في
َ َ َُ ُ ْ كثي ٍر من األحيان من أجلها ،ولذلك يقول اهلل (سبحانه وتعالى)} :وال تقولوا َ َ ُ َ ْ َ ُ ُ ُ ْ َ َ َ َ َ َ ٌ َ َ َ َ َ ٌ َ ْ رَ ُ ْ صف أل ِس��نتكم الك ِذب هـذا حالل وهـذا حرام ّتِلفتوا ل ِما ت ِ لَىَ ْ ْ ذَّ َ َ َ ْ ْ رَ َّ َ ُ ُ َ هّ َ َ ُ َ لَىَ هّ ون{ تون ع اللِ الك ِذب ال يفلِح ع اللِ الك ِذ َب إِن الِين يف ِب) :يكذب�ون على اهلل ،فيحرمون [النح�ل :اآلي�ةِّ ( ،]116ل َت ْفتَرُ و ْا عَ لَ�ى ال ّل ِه الْكَ ذ َ شيئًا ما ،وعلى أساس أن يحسب هذا التحريم باسم أنه تحريم من اهلل ،وفي
ش�رع اهلل ،وفي دين اهلل ،وأش�ياء تقدَّ م على أنها حالل ،ويحس�ب هذا على ماذا؟ على دين اهلل ،وباس�م دين اهلل ،وباس�م ش�رع اهلل ،يقال[ :ذاك حالل،
ُ ْ َ َ َ ْ ُ َّ َ َ َ ُهّ َ ُ وذاك حرام] ،يقول اهلل (سبحانه وتعالى)} :قل أرأيتم ما أنزل الل لكم ّ ْ َ َ َ ْ ُ ّ ْ ُ َ َ ً َ َ َ ً ُ ْ ُهّ َ َ َ ُ ْ َ ْ لَىَ ّ مِ��ن ِرز ٍق فجعلتم مِنه حراما وحالال قل آلل أذِن لكم أم ع هّ َ ْ رَ ُ َ تون{ [يونس :اآلية.]59 اللِ تف
فق�وى الطاغ�وت كانت تتخاطب م�ع الناس حتى باس�م الدين،
وكان�ت تأت�ي إلى كثي�ر من العقائ�د واألف�كار والتصورات فترس�خها في
أذه�ان الناس ،وتتحول إلى عقائد يعتقد بها الن�اس ،ويتعصب لها الناس، وبن�ا ًء على أنها دين يمثِّل دين اهلل ،محس�وبة على اهلل (س���بحانه وتعالى) وهي افتراء على اهلل (سبحانه وتعالى).
ثم في الحالل والحرام كذلك :أش�ياء معينة يس�تحلها الناس ،بنا ًء على
أنها من حالل اهلل ،وأشياء معينة يحرمها الناس ،بنا ًء على أن اهلل حرمها ،واملسألة هناك وهناك ،في العقائد وفيام قدم بصفة الحالل وبصفة الحرام افتراءات على 110
اهلل ،وادعاء كذب وبهتان على اهلل (سبحانه وتعالى) يقدم من جهات محترمة في
أوس�اط الناس :زعامات ،ش�خصيات تُقدم على أنها :أحبار ،رهبان ،كهنة... صفات معينة ،وشخصيات وازنة في املجتمع ،يتأثر بها الناس ،ويتقبلون منها،
ويتأثرون بها ،وبام تقدمه إليهم محسوبًا على اهلل (سبحانه وتعالى).
فاملس�ألة مس�ألة خطيرة جدًّ ا ،حتى -مثلاً -في قصة املس�جد الحرام
وش�عائر الحج ،ش�عائر الحج كانت قائمة حتى في زمن املجتمع الجاهلي،
ف�ي املجتمع الجاهلي ش�عائر الح�ج كانت قائم�ة ،منذ العه�د اإلبراهيمي توارثت األجيال الحج من بعد نبي اهلل إبراهيم (عليه الس�ل�ام) ولكن اختلط
في مش�اعر الح�ج الكثير من الخراف�ات واملخالفات والعقائ�د ،حتى أنهم
أتوا إلى مكة ،وحتى على سطح الكعبة بأصنام نصبت هناك ،وشابت حتى األعامل وش�عائر الحج شوائب كثيرة جدًّ ا فيام يقولون ،وفيام يعبِّرون ،وفيام
يتصـرفون ،مخالفة لدين اهلل ،وحسبت على دين اهلل.
كان املش�ركون بأنفس�هم هم املس�يطرون عل�ى مكة ،بما هم عليه
م�ن ش�رك وكفر ،ب�كل م�ا لديه�م م�ن :خراف�ات ،وعقائد ،وتص�ورات، واختلاالت ،وتج�اوزات ،وش�وائب دخل�ت ف�ي عملي�ة الح�ج بكله�ا،
يس�يطرون ويقدمون ذلك كواحدة من الوس�ائل التي يخادعون بها الناس، ب�ل يقدمون أنفس�هم أنهم من يعبِّ�رون هم عن الدين اإلله�ي ،فتتجه إليهم
أنظ�ار القبائل العربية على أنه�م هم يمثِّلون الرمزي�ة الحقيقية لهذا الدين، ويتأث�رون بهم ،فيصدرون الكثير من العقائد الباطلة ،والتصورات الخاطئة
املحسوبة على دين اهلل (سبحانه وتعالى).
111
في ظل ذلك الوضع السيئ جدً ا ،واملستمر إلى مرحلة متأخرة ،مثلاً :
منذ بعث رس�ول اهلل محمد (صلى اهلل عليه وعلى آله وس���لم) بالرسالة اإللهية
وحتى وفاته ،على مدى عش�رين عامًا من مبعثه بالرسالة وحركته بالرسالة، على مدى عش�رين عامًا كانت ال تزال مكة تحت سيطرة املشركين ،وكانوا ه�م الذي�ن يديرون ش�عائر الح�ج ،وكان�وا هم م�ن يس�عون لتوظيف هذه الس�يطرة توظيفًا في عملية التضليل ،وصنع قناعات باطلة ،وتصدير عقائد
محس�وبة على اهلل وعلى دينه ،وكذلك أحكام ش�رعية في الحالل والحرام وغير ذلك ،لخداع املجتمع.
النتائج ال�سيئة عن االنف�صال عن م�صادر الهداية وإذً ا نأتي إلى أن أكبر مشكلة كانت هي انفصال الناس عن مصادر
الهداية الحقيقية ،ثم عندما نأتي لتأمل تلك الوضعية السائدة ،وضعية
يسيطر فيها الطاغوت ،ويتحكم فيها الطاغوت ،ويوظف كل العناوين الدينية ملصلحته ،ما كان منها باسم عقائد ،وما كان منها باسم تفاصيل
عملية وحرام وحالل ،وما كان منها باس�م ش�عائر ومقدسات ،تتحول هي كلها تحت التوظيف واالستغالل ،كل هذا سنعود منه لنعرف أهمية
َّ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ َّ ْ َ َ تَ ُ َ قول اهلل تعالىِ} :إَون لم تفعل فما بلغت ِرساله{ ،سندرك من
هنا ،يمكن لكل العناوين أن تكون حاضرة ،ما كان باسم عقائد دينية،
وما كان باسم تفاصيل دينية ،ويمكن لها كلها أن تدخل ضمنها الكثير من الشوائب ،وتدخل فيها عملية االستغالل ،والتزييف ،والتحريف، 112
تبق مرتبطة بمصادر الهداية. والخداع ،والتضليل ...إن لم َ
إن املجتم�ع الجاهلي لم تغب عنه مس�ميات الدين ،ولم تغب عنه
مسألة ما يوصف بعقائد أو تدين ،وما يوصف بحالل ،وما يوصف بحرام، عناوي�ن حاض�رة في حياة الن�اس ،وقائمة في واقع الن�اس ،ولكن بتضليل كبير ،وبخداع كثير ،وباستغالل ،وأصبحت كلها وسائل للسيطرة على هذا اإلنسان ،واالستغالل لهذا اإلنسان.
ولذلك وصلت حالة املجتمعات البشرية إلى حالة مأساوية وفظيعة
جدًّ ا ،ظلامت رهيبة أصبح يعيش�ها املجتمع البش�ري ،ال ي�رى الحق ،يقدم ل�ه الباطل حقً �ا ،يقدم له الحرام حاللاً ،تقدم له عقائ�د في غاية االنحراف
لتك�ون دينًا يتدين بها ويتقرب بها ،وينتظر من ورائها كل الخير ،وتحس�ب ف�ي كثي� ٍر منها عل�ى من؟ تحس�ب زورً ا وافت�را ًء عل�ى اهلل (س���بحانه وتعالى)
وامتأل الواقع البش�ري في ظ�ل تلك الوضعية بالظلم والظالم واالس�تعباد واالستغالل ،وهذا ما تحدث عنه القرآن الكريم كثيرً ا وكثيرً ا.
(((
نسأل اهلل (سبحانه وتعالى) أن يرحم شهداءنا األبرار ،وأن يشفي جرحانا،
وأن يفرِّ ج عن أس�رانا ،وأن ينصرن�ا بنصره ،وأن يفصلنا عن التولي ألعدائه
من اليهود والنصارى ،من املستكبرين من كل كيانات الطاغوت وعمالئهم
وأدواتهم ،إنه سميع الدعاء.
•••
((( من محاضرة للسيد القائد بمناسبة الوالية لعام 1439هـ.
113
المحتويات الباب الأول الوالية الإلهية ال�شاملة 4. ................................................ ماذا تعني الوالية؟ 4.............................................................. والية اهلل في مدلولها ال�شامل 7....................................................... والية اهلل ..بين النظرة ال�صحيحة والقا�صرة والخاطئة 9.................................... الر�ؤية الكهنوتية للوالية الإلهية11..................................................... النظرة القر�آنية للوالية الإلهية 14..................................................... ر�سل اهلل ..حَ مَلة م�شاعل النور للب�شرية 16............................................... والية الر�سل امتداد لوالية اهلل 18..................................................... والية الإمام علي امتداد لوالية النبي الأكرم 22............................................ الدور المهم والمحوري للإمام علي 23...................................................
الباب الثاني �سنة اهلل في الهداية (منهج وقيادة) 26........................................ اهلل هو من ير�سم لعباده الطريق ال�صحيح26............................................... قوى الطاغوت وم�ساعيها ال�شيطانية 32................................................... مبد�أ الوالية ال�ستمرار االت�صال بم�صادر الهداية 37.......................................... البالغ يوم الغدير كان تتويج ًا لن�صو�ص كثيرة 39........................................... الطغاة وا�ستغالل العناوين الدينية 42................................................... نحن معنيون �أن نفهم من هو علي! 44.................................................... الإمام علي منهج عملي ولي�س عنوا ًنا مذهبيًا! 46............................................ المطلوب من كل م�سلم هو الت�سليم 47....................................................
الباب الثالث الإمام علي �أُ ِع َّد في م�سيرة حياته لهذا الدور 54..................................
الإمام علي نف�سه كان مهي�أ لهذا الدور 55................................................. بع�ض ما ورد في �أمير الم�ؤمنين (عليه ال�سالم) 58...........................................
(�أنت مني بمنزلة هارون من مو�سى)59............................................... الإمام علي امتداد للإ�سالم الأ�صيل 64................................................... (ال يحبك �إال م�ؤمن وال يبغ�ضك �إال منافق) 65..........................................
114
حب الإمام علي ال�ضمانة الأ�سا�سية لمواجهة الزيف 69........................................ حالة الفرز �سنة �إلهية72............................................................. �أ�صالة الإمام علي تك�شف حركة النفاق 75................................................. (يحب اهلل ور�سوله ويحبه اهلل ور�سوله) 77............................................... جانب من حياته الإيمانية الجهادية 78................................................... فدائي في الإ�سالم 83............................................. علي (عليه ال�سالم) �أول ٌ ٍ علي (عليه ال�سالم) في بدر 85........................................................ ٌ في �أُحُ د :ال فتى �إال علي وال �سيف �إال ذو الفقار 86........................................... علي يوم الأحزاب 89............................................................... ٌ علي يوم خيبر 89................................................................. ً �شخ�صية متكاملة 90............................................................. كان �أعلم الأمة 90.................................................................... الإ�سالم الأ�صيل منهج للخال�ص 92...................................................... الأنظمة العميلة والموقف المخزي! 92.................................................. الإيمان بمبد�أ الوالية ..ما ذا يعني؟94..................................................
الباب الرابع الوالية الطاغوتية قدمت كبديل للوالية الإلهية 96............................... الر�سول �صلى اهلل عليه وعلى �آله و�سلم في يوم الغدير حدد لنا م�صادر الهداية 96..................... الترتيبات الكبيرة للبالغ ال�ساخن 99.................................................... الخطاب التاريخي العظيم وم�ضمونه المهم 101. ........................................... يوم كمال الدين 102. ............................................................. الربط بم�صادر الهداية �أعظم نعمة على الب�شرية 103. ...................................... الجاهلية هي حالة انف�صال عن م�صادر الهداية وارتباط بالطاغوت 105. .......................... ما ذا يعني الطاغوت؟ وما هو دوره الخطير؟106. .......................................... قوى الطاغوت وخداعها للنا�س 108. ................................................... النتائج ال�سيئة عن االنف�صال عن م�صادر الهداية 112. ......................................
115